معايير النقد السينمائي

ضوء
12:54 مساء
قراءة 4 دقائق

منحت لجنة تحكيم أحد المهرجانات السينمائية الدولية جائزة أفضل سيناريو لفيلم لم يكتب له أحد سيناريو، كما صرح بذلك مخرج الفيلم الذي أبدى استغرابه للحدث، وذكر أنه صنع الفيلم كله بلا سيناريو مسبق وعلى أساس الارتجال .

هذا مجرد مثال حقيقي، إنما متطرف نوعا ما، عن القرارات التي قد تنبثق عن لجان التحكيم السينمائية والتي يصعب تبريرها، وغالباً ما تكون مفاجئة ومخالفة لتوقعات السينمائيين، وخاصة النقاد منهم، هذا التناقض لا يتعلق فقط بالمهرجانات الصغيرة، بل يشمل أيضاً كبرى المهرجانات الدولية العريقة، ومنها مهرجان كان السينمائي، والذي، على سبيل المثال، منح قبل بضعة أعوام جائزته الكبرى لفيلم العم بونمي الذي يستعيد حياته السابقة، فكان من نتيجة ذلك أن اعتبر بعض النقاد منح لجنة التحكيم الجائزة لهذا الفيلم فضيحة مهرجان كان الكبرى .

تضم لجان التحكيم السينمائية عادة تشكيلة معتبرة من أهل الاختصاص بتنوعاته المختلفة: مخرجون، ممثلون، نقاد، منتجون، ويضاف إليه في كثير من الأحيان شخصيات من الوسط الثقافي والفني بهدف زيادة التنويع، وفي مثل هذه الأحوال يفترض أن يصدر عن لجان التحكيم أحكام وقرارات ذات صدقية وتكون مقنعة إلى حد كبير، لكن هذا لا يحدث دائماً، وتظل نتائج لجان التحكيم تشكل في معظم الأحيان مفاجأة لتوقعات المتوقعين، بل وأحيانا تشكل صدمة، خاصة عندما تتعلق الجوائز بأفلام لقيت صدى سلبياً عند أهل الاختصاص وأعرض عنها، بدورهم، المشاهدون .

مما يقال في تفسير هذه الإشكالية إن الآراء التي تطرح في لجان التحكيم آراء ذاتية تعبر عن مواقف أفراد، وقد تتحكم بها مصالح ما، أو تتسبب بها توجيهات وسياسات تتبعها وتمليها على لجان التحكيم إدارات المهرجانات التي قد تسعى وراء توازنات ما، غير أنه يلاحظ أن هذه المشكلة توجد أيضاً حتى في الحالات التي تكون فيها لجان التحكيم مستقلة القرار ومنزهة عن الأهواء والمصالح ويسعى أفرادها للحكم، قدر الإمكان، بموضوعية على الأفلام المشاركة في المسابقة .

أين تكمن المشكلة؟

تكمن المشكلة في رأيي في غياب المعايير النقدية التي تستند إلى منهج نقدي معرفي علمي، وإذا كان هذا الأمر مفهوماً في ما يخص لجان تحكيم مؤقتة المهمة ويجري تشكيلها وفق اعتبارات ذاتية خاصة، فإنه غير مفهوم في ما يخص الإحكام المتضاربة كلياً والتي يطلقها النقاد السينمائيون الذين لا يمارسون النقد كوظيفة مؤقتة، بل باعتباره مهنة دائمة يكرسون لها جهدهم ووقتهم وخبرتهم ومعارفهم السينمائية، بل وحتى علاقاتهم المهنية، ذلك أنه يلاحظ في الممارسة النقدية وجود تناقضات كبيرة في الأحكام على الأفلام، فيعتبر الناقد فيلماً ما تحفة سينمائية، فيما يراه آخر فيلماً ضعيفاً، وقد خبرت هذه الحالة على نحو خاص أثناء مشاركتي في مهرجان أبوظبي السينمائي الأخير، إذ تضاربت الآراء حول الفيلم الإيراني انفصال نادر وسيمين فاز مؤخراً بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وسبق ذلك فوزه بأكثر من جائزة دولية، فلم أتمكن في حينه من مشاهدة الفيلم بسبب انشغالي في عضوية لجنة تحكيم اتحاد النقاد الدولي التي كان مطلوباً منها منح جائزة لأفضل فيلم عربي، تسجيلياً كان أم روائياً، فرحت أستطلع آراء النقاد في المهرجان حول الفيلم، الأمر الذي وضعني في متاهة من الآراء المتضاربة، فمن قائل إن الفيلم مجرد عمل تلفزيوني، إلى قائل إنه دراما إذاعية، إلى من وصفه بأنه تحفة سينمائية مبنية وفق سيناريو محكم عميق المضمون ومشوق جداً شخصياً، وبعد تمكني من مشاهدة الفيلم في وقت لاحق انحزت إلى جانب من اعتبره تحفة سينمائية .

مشكلة النقد بعامة، أي سواء كان نقداً سينمائياً أم نقداً أدبياً أم نقداً تشكيلياً، أنه كثير ما يختلط فيه الذاتي والموضوعي، التحليل المنهجي مع التحليل الانطباعي، وكثيراً ما تلعب الذائقة الخاصة بالناقد دورها في حكمه على العمل الذي يوجه إليه نقده، أو يتحكم بهذا النقد انحياز الناقد لمنهج نقدي معين ينظر إلى العمل الفني من زاوية معينة ويتجاهل الزوايا الأخرى التي قد تكون ذات أهمية، ولها دور كبير في إضاءة جوانب إبداعية في العمل المنقود، لكن في ما يخص السينما، فإن هذه المشكلة هي أكثر تعقيدا، وذلك بسبب الخاصية التركيبية للفن السينمائي الذي يجمع في داخله المسرح والأدب السردي والموسيقا والفن التشكيلي، بما يجعل عملية استقبال الفيلم تتوزع بين هذه الفنون المختلفة حسب تفاوت تركيز كل منها داخل الفيلم الواحد، وحسب درجة اهتمام الناقد بكل واحد على حدة من هذه الفنون التي يتضمنها الفيلم، وهذا يحدث على رغم أن السينما لا تجمع بين هذه الفنون بطريقة ميكانيكية أو عشوائية، بل بطريقة تفاعلية تجعل منها مزيجاً واحداً . وثمة جانب آخر يرتبط بهذه المشكلة، وهو قوة التأثير الانفعالي العاطفي الذي يمارسه الفيلم على المشاهد، فعلى رغم أن هذا التأثير موجود في الفنون والآداب الأخرى مثل الشعر والموسيقا والفن التشكيلي، فإنه في السينما أكثر تنويعاً وفاعلية بسبب تعدد مصادر ووسائل التأثير وبسبب الخاصية التي تتمتع بها السينما من دون غيرها من الفنون والآداب، وهي خاصية الإيهام بالواقع، وجعل المتلقي يعيش في الحاضر أثناء عملية المشاهدة، وهذا ما يلقي مسؤولية أكبر على الناقد، ويتطلب منه معرفة عميقة بالسينما وتقنياتها وتاريخ إنجازاتها الفنية التعبيرية، وهذا، للأسف ما لا يتوفر للعديد من النقاد، ولمن يجري اختيارهم في عضوية لجان التحكيم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"