انتشرت السنة مع القرآن الكريم منذ الأيام الأولى للدعوة، يوم كان المسلمون قلة يجتمعون سراً في دار الأرقم يتلقون تعاليم الدين الجديد، ويقرؤون القرآن، ويقيمون شعائرهم، وكثر المسلمون، وعم الإسلام الجزيرة العربية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع مراحل الدعوة يبلغ الناس، ويفتيهم ويقضي بينهم، ويخطب بهم، ويسوسهم في السلم والحرب، وفي الشدة والرخاء، ويعلمهم فيحفظون الأحكام ويطبقونها. وقد تضافرت عوامل عدة تكفلت بنشر السنة في الآفاق.
يذكر الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين» أن هناك عوامل كثيرة تضافرت وتكفلت بنشر السنة النبوية المطهرة في الآفاق منها نشاط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجده في تبليغ دعوته ونشر الإسلام، فلم يترك وسيلة للدعوة إلا استفاد منها، ولا سبيلاً إلا سلكه، فعرض نفسه على القبائل، وتحمل الصعاب وصنوف الأذى، واتصل بوفود المواسم وعرض عليهم الإسلام.. فلم يأل جهداً في تبليغ الرسالة.. حتى عز الإسلام وقويت دولته، وفي جميع تلك التطورات كانت السنة تأخذ مكانها في نفوس المسلمين.
أيضاً فإن طبيعة الإسلام ونظامه الجديد، جعلا الناس يتساءلون عن أحكامه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأهدافه، فكان بعض من يسمع بالدعوة يقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الإسلام فيعلن إسلامه، وينطلق إلى قومه؛ ليبلغهم ما رأى ويخبرهم ما سمع. وكذلك كان نشاط أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، واندفاعهم في طلب العلم وحفظه وتبليغه دور كبير في نشر الإسلام.
أمهات المؤمنين
والثابت أنه كان لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن فضل عظيم في تبليغ الدين، ونشر السنة بين نساء المسلمين، فقد كان بعض النساء يخجلن من أن يسألن رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أمورهن فيجدن عند أزواجه ما يشفي غليلهن؛ لأنهن على صلة دائمة به، يتعلمن منه الأحكام، وينقلن عنه صلى الله عليه وسلم ما لا يتاح لغيرهن نقله، وقد اشتهرت السيدة عائشة رضي الله عنها بعلمها الغزير، وحرصها على فهم الأحكام، فعن ابن أبي مليكة «أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حوسب عذب، قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله تعالى: «..فسوف يحاسب حساباً يسيراً؟» قالت: فقال: «إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك».
وقد عرف المسلمون سمو مكانة عائشة رضي الله عنها، وتعمقها في أحكام الإسلام، فكانت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم محط أنظار طلاب العلم والمستفتين ومرجعهم في كثير من أمور دينهم.
ويقول الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتاب «مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة»: «كان للنساء أثر عظيم في حفظ السنة وتبليغها لا يقل عن أثر الصحابة رضي الله عنهم، وقد رأينا حرصهن على حضور مجالس الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إذا ما رأين الرجال قد غلبوهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلبن منه أن يعين لهن جلسات خاصة بهن يسألنه فيها عن أمورهن ويتعلمن أحكام الإسلام.. كما أنهن كن يشهدن بعض المواسم كصلاة العيد ويستمعن إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان لهؤلاء الصحابيات رضي الله عنهن أثر عظيم في حمل أحكام كثيرة تتعلق بالنساء وحياتهن الزوجية، كان من الصعب أن يسأل الصحابة عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم».
بعوث الرسول
وأيضاً كان لبعوث رسول الله إلى الملوك والرؤساء دور كبير في نشر السنة، ففي السنة السادسة كثرت بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وجه بعد صلح الحديبية رسله إلى الملوك، يحملون إليهم كتبه، ففي يوم واحد انطلق رسل عدة إلى جهات مختلفة يتكلم كل واحد منهم بلسان القوم الذين بعث إليهم، فقد اشتهر أنه أرسل رسله إلى قيصر الروم، وإلى أمير بصرى، وإلى الحارث بن أبي شمر أمير دمشق من قبل هرقل، وإلى المقوقس أمير مصر من قبل هرقل يدعوهم إلى الإسلام، كما وجه صلى الله عليه وسلم كتبه إلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وأرسل كتبه ورسله إلى عمان واليمامة وغيرهما. وكان الرسل يجيبون عما يسألهم عنه الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، ويبينون لهم الإسلام وغاياته على ضوء ما يزودهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوجيه والإرشاد، وكان صلى الله عليه وسلم يولي على كل قوم قبلوا الإسلام كبيرهم، ويمدهم بمن يفقههم ويعلمهم.
فتح مكة
وكذلك كان لغزوة الفتح أثر عظيم في نشر السنة، ففي سنة 8 من الهجرة نقضت قريش صلح الحديبية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم القبائل المسلمة إلى أن تحضر رمضان في المدينة، وانطلق بعشرة آلاف مجاهد إلى مكة المكرمة، ففتحها وقوض الوثنية وحطم الأصنام، ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيباً في ألوف المسلمين والمشركين فعفا عن أعدائه الذين اضطهدوه وآذوه. ثم أعلن كثيراً من الأحكام، منها ألا يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، ثم أقبل الناس يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد كان فتح مكة حدثاً تاريخياً عظيماً، نقلته جموع غفيرة، ونقلت معه خطبة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى الآفاق، كما نقل المسلمون الجدد ما سمعوا من إرشاد وتوجيه إلى أهلهم وذويهم في مكة وغيرها.
والمؤكد أنه كان لحجة الوداع دور عظيم في نشر السنة، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة، إلى مكة المكرمة وحج بالناس، وكان معه جمع عظيم يبلغ تسعين ألفاً، ووقف في عرفة في هذه الجموع الكثيرة وخطب خطبة جامعة بيّن فيها كثيراً من الأحكام، منها حرمة دماء المسلمين وأموالهم، وأداء الأمانة، ووضع ربا الجاهلية، كما وضع دماء الجاهلية التي كانت بينهم ومنع العادات الباطلة، وبيّن بعض حقوق الرجال وحقوق النساء، وحث على حسن معاملتهن، ومنع الوصية للوارث.
ولقد كانت هذه الخطبة الجامعة من أهم العوامل في انتشار السنة بين القبائل العربية؛ حيث سمعها عدد كبير جداً، ونقلوها إلى الآفاق، طبقاً لما جاء فيها من قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب).