البرازيل.. حديقة الثقافة اللاتينية

03:00 صباحا
قراءة 7 دقائق
يوسف أبولوز

استقّلت البرازيل عن البرتقال في العام 1822، ليُخلّف الاستعمار بذلك وراءه اللغة التي سيكتب بها كبار الرواية والشعر في بلد يستمد روحه وأساطيره وواقعيته أيضاً من الضفاف الكاريبية وأمريكا اللّاتينية التي خرج من صلبها ماركيز «كولومبيا»، ولكن، البرتغالية أو الإسبانية التي يكتب بها شعراء وروائيو دول الكاريبي وأمريكا اللّاتينية لا تحمل ذاكرة استعمارية أو هوى استعمارياً؛ بل تحمل روح المكان بكل مكوّناته الجغرافية والأنثروبولوجية والاجتماعية، وسيكتب بالبرتغالية أدباء استثنائيون أكثر ممّا في البرتغال التي أنجبت «خوسيه ساراماغو 1922- 2010 حائز نوبل في 1998».
الدولة الخامسة في العالم من حيث المساحة الجغرافية وعدد السكان، «أمازونية» الطبيعة والمناخ الذي يراوح ما بين الدّافئ والحارّ ضمن منطقة استوائية مطيرة سوف تمد البلاد بفضاء زراعي مثير تلتقط رائحته من روايات من مثل المحصول الأحمر أو «غابرييلا.. قرنفل وقرفة» لعرّاب الرواية البرازيلية؛ بل عرّابها في أمريكا اللّاتينية والجنوبية كلّها «جورجي آمادو» 1912-2001 ومع ذلك لم يصل إلى كرسي نوبل، وهذه القيمة المعنوية، التي نتحدث بها عن صاحب «زوربا البرازيلي» لا تقلل بالطبع من قيمة ماركيز أستاذ الواقعية السحرية في رواية أمريكا اللاتينية؛ بل في العالم كله.
يأتي في تاريخ البرازيل أنها بهذا الاسم لارتباطه بنوع من الخشب المائل للون الأحمر، أما من حيث التركيبة السكانية في البرازيل فهي خليط أعراق من البيض، الخلاسيين، الملونين، والسود، والآسيويين والهنود الحمر إضافة إلى عرق يُسمّى «باردو»، ومن المهم ذكر هذه النقطة؛ لأن هذا الخليط العرقي الاجتماعي العجيب سيولد منه أدب متنوّع وثقافة هي تركيب أكثر من ثقافة، وستنعكس هذه التركيبة بالضرورة على الفن سواء الشعر أو الموسيقى أو الغناء أو الفنون البصرية التشكيلية.
من المهم هنا، أن نذكر مكوّناً اجتماعياً بالغ الخصوصية في البرازيل وهو «العرب»، ومن المعروف لمن قرأ روايات جورجي آمادو، أن أبطال بعضها هم عرب، وفي نطاق أمريكي لاتيني أيضاً تحضر بقوّة صورة بطل رواية «قصة موت معلن» وهو «سانتياغو نصّار» هو عربي.
المكوّن الثقافي العربي حاضر بقوة في البرازيل منذ هجرة عدد كبير من اللبنانيين بشكل خاص في العشرينات والثلاثينات من النصف الأول من القرن العشرين إلى البرازيل وكولومبيا والأرجنتين، وأسس هؤلاء شبكة تجارات ناجحة، والبعض منهم وصل إلى مواقع سياسية متقدّمة غير أن المهم هنا أن عدداً من شعراء البرازيل أصولهم عربية لبنانية أو سورية، ويكتب البعض منهم بالعربية والبرتغالية، مثل الشاعر البرازيلي = من أصول لبنانية = إلياس فرحات، والشاعر «جورج مدوّر» الذي يعود أصله إلى آل زيدان في لبنان؛ بل، أكثر من ذلك له قصيدة يصرّح فيها بأصوله العربية هذه، ويقول فيها: «هل تعلمون أني صنعت في طفولتي/ سُفُناً من خشب الأرز القديم/ أجراها خيالي في اليم/ وأبي - إبن مدوّر - نسج لسفني أشرعة/ ولي - ابنة آل زيدان - نفحتني بحب التوت زاداً/ وطويت البحار استهدي النجوم../.. والآفاق المضرّجة بوهج الأغاني والآهات../.. واليوم صار لي مرافئ أرسو بها آمنا../.. في ضوء البدر الفضّي../.. وقلبي ثمرة ناضجة../.. فإن حملت لكم من أسفاري مشمشاً وبقلاوة فهي من طيّبات آبائي العرب..».
من الواضح هنا في هذه القصيدة، أن الشاعر طوى البحار مستهدياً بالنجوم في هجرته من لبنان إلى البرازيل التي أصبحت وطنه «صار لي مرافئ أرسو بها»، لكن هذا المرفأ البعيد لم يُنس الشاعر آباءه العرب. شاعر آخر برازيلي من أصول عربية هو «جميل منصور حدّاد» يقول.. «لا تموتي يا بلاد العرب في ذاتي، لا تموتي../.. في كل حياة سوف تبعثين حياة جديدة../.. وفي جوانحي كلّها تتفجّرين ضراعةً وكلاماً وصلاةً ونداءً..». ولا حاجة للتعليق على هذه القصيدة؛ نظراً لمباشريتها أو نظراً لِ «أصولها العربية» التي يعتز بها الشاعر.
إلى جانب ذلك هناك من هاجر إلى البرازيل وعاش فيها وحمل جنسيتها وأمضى سنوات طويلة في هذا المكان المؤلف من تركيب نفسي وثقافي وفكري غزير.. إلاّ أنه ظل مشدوداً إلى العربية، وإلى نظامها الشعري العمودي مثل الشاعر إلياس فرحات 1893-1976 ومسقط رأسه قرية كفر شيما اللبنانية، وهو مسيحي له قصائد مدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.. «.. غَمَر الأرضَ بأنوار النبوّة.. كوكب لم تدرك الشمس علوّه..».
الخضرة القاتلة
من أفضل من عرّفنا بالثقافة الأدبية في البرازيل الكاتب السوري د. شاكر مصطفى الذي مثل بلاده ديبلوماسياً في البرازيل، ومن خلال تجربته هذه وضع كتاباً بعنوان «الأدب في البرازيل» صدر في العام 1986 ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت، ويحدّد لنا د. مصطفى «برازيل» ثقافية، وأخرى «غابية» إن جازت العبارة، أي من الغابة أو ما يسمّيها «الخضرة القاتلة» ويقول.. «الواقع أنك حين تتحدث عن البرازيل أدباً أم سكاناً أم حضارة أم اقتصاداً أم فكراً، فإنك إنما تتحدث عن نصف البرازيل، عن قسمها الشرقي، عن أرضها المطلّة عن قريب على المحيط الأطلسي، أما الامتداد الأكبر إلى الغرب فخارج العالم الحديث، وخارج الحساب وخارج الوصف؛ لأنه عالم آخر قائم بذاته كان حتى الأمس القريب وإلى ما قبل غزو الشركات متعددة الجنسيات لأطرافه وبدء استغلاله الواسع العالم المجهول ذا الأسرار والغابة التي يدعونها، مع الرهبة، بجهنمّ الخضراء..».
الكتاب غني ومملوء.. فهو نتاج معايشة ميدانية أولاً، وثانياً يحيط بالبرازيل الأرض والإنسان والتاريخ، إضافة إلى موضوعات مهمة أخرى، ولكن من المهم أن يعرف القارئ العربي من هم الأدباء الكبار في البرازيل وهو الفصل الذي خصصه

د.مصطفى حول هذا الموضوع، ومن هؤلاء الكبار البرازيليين «ماشادو دو أسيس 1839- 1908»، ويضعه د. مصطفى في مصاف غوته عند الألمان وشكسبير عند الإنجليز، أما «إقليدس داكونيا - 1866- 1909»، فهو «أول كاتب برازيلي أصيل، ويرجع د. مصطفى ظهور ما سمّاه الشعر الجديد في البرازيل إلى العام 1893 «عابقاً بنوع من التدين الغامض والصّوفية الحائرة، وبقاموس جديد من اللفظ الشعري، وبشيء من شيطان بودلير وموسيقية مالارميه..»، ونحن نفهم من هذا الربط بين روح الشعرية البرازيلية وروح الشعرية الفرنسية أن بلد الكاكاو والقرنفل والقرفة مبكراً من الناحية لغة الشعر قد انفتح على الثقافة الغربية، مع الاعتبار أن الغرب الأوروبي ينظر إلى خصوصية المكان الكاريبي اللاتيني ومنه البرازيل كما ينظر إلى الشرق بسحره وألغازه وروائحه ولياليه العالقة دائماً في ذاكرة المستشرقين بشكل خاص.
الأدب المهجري
يأخذنا د. شاكر مصطفى أيضاً إلى ما سمّاه الوجه الآخر للأدب المهجري، ويضيء فيه على عدد من الشعراء العرب الذين هاجروا إلى البرازيل، ويهمنا القول إن مصطلح «الأدب المهجري» يكشف عن الدلالة المصطلحية التي يحملها وهي أدب المهجر، فالشاعر الذي يهاجر إلى أمريكا أو أوروبا أو أي مكان في العالم لا يكون مهاجراً لحظة حمل جنسية البلد الذي يهاجر إليه؛ ولذلك ف «الأدب المهجري»، كما أرى، هو مصطلح عربي أو صناعة عربية صرفة.
الشاعر البرازيلي من أصول عربية هو خارج مصطلح الأدب المهاجر أو الأدب المهجري الذي ظهر أولاً في فضاء الأدباء اللبنانيين الذين وَلوّا وجوههم صوب أمريكا والغرب: ميخائيل نعيمة، جبران، إيليا أبو ماضي، نسيب عريضة، وغيرهم من مجموعة «الرابطة القلمية» التي أسسها جبران خليل جبران في العام 1920.
في مقابل «الرابطة القلمية» التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الشمالية، ظهر ما سُمّى ب «العصبة الأندلسية» التي تضم أدباء عرباً هاجروا إلى البرازيل والأرجنتين والمكسيك ومن بينهم: ميشيل نعمان معلوف، وفوزي المعلوف، ورشيد سليم، واسكندر كرباج وغيرهم.
يقول د. مصطفى مشيراً إلى ما يمكن أن يُسمى القطع الكلي مع اللغة العربية عند جيل الشعراء البرازيليين، الذين ولدوا هناك وبالتالي، ما عادوا مهاجرين، وما عادوا يكتبون «أدباً مهجرياً».. يقول.. «.. الأبناء الذين ولدوا ونشأوا هناك في المغترب... هم الوجه الآخر المجهول لهذه المدرسة المهجرية الأدبية، لعلهم الجيل الثاني منها، ولكنهم الجيل الغريب، هم الذين تفاعلوا مع البيئة الجديدة، ولكنهم لم يكتبوا لنا نحن. يكاد لا يعرف أحد منهم حرفاً من حروفنا».
بقي أن نشير أن هذا الخليط البرازيلي الذي تجري في عروقه دماء عربية، تجري في عروقه أيضاً دماء هنود حمر هم شعراء كما يقول أحمد فرحات في مادة موسعة له حول شعر الهنود الحمر في البرازيل: «من ذوي السحنات البرونزية في المدن والبلدات الحديثة، التي عمّرها مهاجرون بيض إلى البرازيل، تراهم لا يعدمون عادة التردد على الأدغال الأمازونية السحيقة، هناك حيث يقبع ما تبقى من قبائل آبائهم وأجدادهم...». وعلى سيرة العروق والدم، فقد أجريت والزميلة الصحفية البرازيلية «سونيا امبروزيو» حواراً صحفياً مع الروائي البرازيلي جورجي آمادو في أوائل تسعينات القرن العشرين في مجلة الشروق، وعندما أخبرناه أننا نجري هذا الحوار معه بالهاتف من الإمارات، قال بصوته الهادئ الثقيل.. «تجري في عروقي دماء عربية».
فضاء حكائي شعبي
الخلطة البرازيلية الخلاسية مثلما أوجدت هذه الشبكة العجيبة والجاذبة من الأدبيات والجماليات المشتقة من المكان في تنوعه الطبيعي الجغرافي الزراعي الثري.. أوجدت أيضاً سردياتها الشعبية في بلاد متعددة الأقوام والإثنيات والعرقيات.. إنها حكايات الناس البسطاء، وقد جاءت على لسان الطير والحيوان بما يذكر بالحكاية الشعبية أو بعضها في الثقافة العربية، وبما يذكر أيضاً بحكايات «آيسوب» في الثقافة الشرقية.
سوف نتعرف إلى عدد من الحكايات الشعبية البرازيلية من خلال كتاب «كيف أتى الليل؟» جمعتها «إلسي سبايسر»، ونقلها إلى العربية نوح إبراهيم من إصدارات مشروع كلمة، أما سبايسر فإنها تقدم لهذه الحكايات من خلال روح البرازيل: «إنه الأصيل في حديقتي البرازيلية، بهتت زرقة البحر والسماء المدوّخة التي تميّز الظهيرة الاستوائية، وبدأت تدرّجات اللون الوردي بالإعداد للمغيب الفاتن..».
ليست هذه الحكايات البرازيلية للنوم أو قتل الوقت كما يقولون؛ بل فيها الكثير من الفكر والفلسفة والحكمة، إنها حكايات إنسانية كونية، ولكن جوهرها برازيلي، «حين صمم البرازيليون علم بلادهم أخذوا مربعاً أخضر هو لون قشرة الخنفساء الخضراء، ووضعوا داخل المربع مُعَيّناً ذهبياً مثل الأضواء الذهبية التي ترتسم على ظهر الخنفساء الخضراء، ثم رسموا داخل المعين دائرة تمثل الأرض الكروية ولوّنوها بالأزرق مثل قشرة الخنفساء الزرقاء، ووضعوا على الدائرة الزرقاء نجوماً فضية
على ظهر الخنفساء الزرقاء. حول دائرة الأرض التي صوّروها هكذا رسموا شريطاً أبيض وعلى هذا الشريط كتبوا شعار بلدهم:
«النظام والتقدم»، من قصة «كيف حصلت الخنافس البرازيلية على قشرتها البهيّة».
عقد لؤلؤي
ماذا عن كرة القدم؟ إنها الحياة على الطريقة البرازيلية كما قال الصحفي الإنجليزي «إليكس بيلوس» في كتابه «كرة القدم الحياة على الطريقة البرازيلية». بلد يتنفس كرة قدم. وينام على كرة القدم. من اللاعب سقراط إلى بيليه، إلى نيمار، إنه عقد برازيلي طويل ولؤلؤي يبعث على الشغف والإثارة حتى تحوّلت هذه اللعبة ذات الجذور الإنجليزية إلى ثقافة برازيلية يومية، وأكثر من ذلك أصبحت جزءاً من الهوية البرازيلية كما يقول «بيلوس»: يبلغ شغف البرازيليين بهذه اللعبة حداً لا يوصف ولا يُستثنى من ذلك أحد حتى المكفوفين، فيوجد في البرازيل 56 فريقاً للمكفوفين الذين يمارسون كرة القدم الخماسية، يمثلون ولايات البرازيل كلها».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"