“سبيل نفيسة البيضا” جوهرة القاهرة التاريخية

واجه عوامل الزمن والإنسان
02:56 صباحا
قراءة 4 دقائق

في قلب مدينة القاهرة التاريخية، يقع سبيل وكتّاب "نفيسة البيضا"، الذي كثيراً ما عانى التعديات على مدى عقود، إلى أن جاءت أيادي المصريين ليناله الترميم، تمهيداً لتوظيفه كأحد المراكز الثقافية .
وعلى الرغم من أعمال الترميم التي استمرت عدة سنوات كان ضرورياً إطالتها لما كان يعانيه "السبيل" من تهالك، الأمر الذي كاد يؤدي به إلى الاحتضار والموت السريري، حتى كانت صيانته إنقاذاً من جميع التعديات التي تنوعت بين تعديات الزمن وتعديات الإنسان، بعدما اتخذته جهات حكومية موطناً لها، فضلا عن تعديات سكان المنطقة عليه، واستخدامه سكناً لدى بعضهم .
أعمال الترميم اشترك فيها خبراء من مركز البحوث الأمريكي في القاهرة، إضافة إلى أيدي مرممين مصريين من المجلس الأعلى للآثار، ما يعني الأهمية التاريخية لهذا الأثر الفريد الذي يوصف بأنه جوهرة القاهرة التاريخية، لما يضمه من مقتنيات، وإن اختلفت وظيفتها، إلا أن استمرار وجودها كأحد ملامح "السبيل" يجعله فريداً من نوعه .
"السبيل" يحتل مكاناً بارزاً في الجزء الجنوبي من شارع المعز لدين الله، ورغم مساحته الصغيرة، يعد مصدراً تاريخياً وشاهداً في الوقت نفسه على التطور المعماري في مصر واندماج الحضارة القديمة مع الأخرى الأجنبية، وهو ما يبدو في التناسق المعماري الملحوظ ودقة التنفيذ في نحت الأحجار والزخرفة على البرونز والخشب، ما أثار إعجاب المرممين الأمريكيين أنفسهم، وجعلهم يضعونه على قائمة الترميم التي يوليها المركز الأمريكي في القاهرة، حفاظاً على هذا الصرح التاريخي من ناحية، وتوظيفه مركزاً ثقافياً من ناحية أخرى .
وعلى الرغم من أن "السبيل" و"الكُتاب" كان يوماً يحتل مركزاً رئيساً في الحي القائم به، فقد وظيفته مصدراً لتوزيع المياه، فضلاً عن توظيفه كتّاباً لتعليم الأطفال تلاوة القرآن الكريم، كغيره ضمن الصروح الأثرية المماثلة، الأمر الذي جعل القائمين عليه يوظفونه مركزاً ثقافياً، غير أنه نتيجة تداعيات ثورة 25 يناير التي أسهمت بالتعدي على آثار القاهرة ومنها الإسلامية تحديداً، فقد أدى ذلك إلى إغلاق السبيل حتى إشعار آخر، ريثما تهدأ الأوضاع الأمنية وتستعيد المنطقة التاريخية هدوءها .
وفي هذا السياق كان آخر عهد لوظيفة "السبيل" في عام ،1956 ومن بعدها صار في حلة متهالكة جراء ما واجهه من تعديات تراكمت في ما بعد عبر عقود عدة، حتى بعد ترميمه فإن إعادته إلى وظيفته الأساسية تصبح من الصعوبة بمكان، جراء تباين الوظيفة في المنطقة الجغرافية التي يقع فيها السبيل، وأن فكرة وظيفته أصبحت أثراً بعد عين كغيره من الصروح التاريخية التي فقدت وظيفتها، وأصبحت بعد حلتها الجديدة مزاراً سياحياً، أو مركزاً ثقافياً .
وكان أخطر ما واجه فريق الترميم المياه الجوفية ومياه الأمطار، التي كانت أحد أهم العوامل الرئيسة المؤثرة في السبيل، ما أدى إلى تدهور حالة معظم الآثار في القاهرة التاريخية، ومنها سبيل وكتاب نفيسة البيضا الذي يزيد عمره على 200 عام، ليكون شاهدا على العديد من الأحداث التي مرت بها البلاد طوال هذه الفترة .
خطورة العوامل التي كانت تهدد السبيل أن المياه الجوفية تسربت من باطن الأرض إلى الأحجار فارتفعت داخلها عن طريق الشعيرات وتفاعلت كيميائيا، ما تسبب في تراكم طبقة من الأملاح تمددت داخل وخارج الأحجار، وأدت إلى شروخ في الأحجار، فضلاً عما تسببت فيه المياه الجوفية من تساقط الأسقف، وكان للمياه المتسربة دور في تخريب المبنى، إضافة إلى امتداد أيدي المخربين إلى المبنى ذاته، فتهدمت بعض جدرانه وخلفت النفايات وراءها الكثير من التهالك للجدران ودرجات السلم والأسقف، كما ساءت بعض نوافذ السبيل .
وكانت أولى محاولات إعادة إحياء السبيل إلى سابق عهده أن تم تنظيفه من النفايات وتسجيله أثريا واستعادة حالته السابقة لاستدعائها عند الترميم الدقيق والمعماري الذي تعرض له السبيل، بالشكل الذي أسهم في تدعيم الحيطان بالربط والحقن، واستكمال المفقود من الأحجار، تم تنظيف الحوائط من خلال "الكمدات" النازعة للأملاح، وتدعيم الأسقف ببراطيم خشبية حديثة أضيفت إلى الأخرى القديمة .
وأمام جملة من أعمال الترميم الفنية، كان التحدي الآخر الذي واجه المرممين هو صيانة الزخارف وإعادة الأجزاء المفقودة، ثم إصلاح الأبواب وتركيب زجاج النوافذ، وإنارة السبيل والكتاب، ما أدى بالسبيل في النهاية إلى أن يصبح في حلة جديدة تعيد إليه تاريخه الذي كان عندما أمرت صاحبته، نفيسة البيضا، بتشييده على نفقتها الخاصة هي وزجها وتسجيله وقفية خاصة بممتلكاتها تأمينا لمستقبلها، وتصدقت بمعظم ريع الوقف إلى الله تعالى قاصدة وجهه .

وقفية تاريخية

ويعرف أن "البيضا" ولدت عام 1850 في بلاد القوفاز أو شرق الأناضول، وبيعت كجارية واشتراها علي بك الكبير الذي كان أقوى مملوك في تلك الفترة الزمنية، وسرعان ما أصبحت الجارية المفضلة لعلي بك الكبير، وعندما توفي تزوجت مراد بك وأصبح لديهما عدد من الممتلكات المنتشرة في جميع أنحاء القاهرة، وامتلكا عدداً ضخماً من المنازل وحامية خاصة مكونة من 300 مملوك كما امتلكا جواري وعبيداً .
وعلى الرغم من انتشار الاضطرابات والأوبئة والمجاعات والحروب الأهلية في هذه الفترة الزمنية، فإن نفيسة وزوجها أنفقا بسخاء وكرم على نفسيهما وذويهما ما جعلهما يوقفان ممتلكاتهما .
وبعد وفاة مراد بك الكبير نتيجة اضطرابات عدة في البلاد وأمراض أصيب من خلالها الطاعون، توارى اسم "نفيسة البيضا"، ليتولى بعدها الوالي محمد علي باشا مقاليد الحكم في عام ،1805 بعدها انخفضت ثروة "نفيسة البيضا"، ولم تستطع الوفاء بمصاريف حاشيتها الضخة التي ورثتها عن زوجها .
وأخيرا تبقى الإشارة إلى أن "السبيل" يتكون من غرفة مرتفعة ومزخرفة، واجهتها مغطاة بالنوافذ المطلة على "شارع المعز"، وهي الغرفة التي تبدو عمارتها الفائقة الممزوجة بالعمارة العثمانية إضافة إلى الأخرى المصرية جراء جنسية صاحبة السبيل، وكانت فائدة هذه النوافذ أن يتم توظيفها في توزيع المياه لعابري السبيل، فيما لم يعثر المرممون على خزان أسفل أرضية "السبيل"، ما كان يعني أنه يتم تخزين المياه أولا بأول من خلال مياه نهر النيل .
أما "الكتّاب" فكان يشغل الغرفة القائمة فوق "السبيل"، ويتكون من شرفة مطلة أيضا على "شارع المعز"، وتمتع أيضاً بعمارة متميزة عكست روح العصر العثماني الذي انعكس بروعته المعمارية على الأسبلة والكتاتيب التي أنشئت في ذلك العصر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"