أحمد راشد ثاني.. عصي على النسيان

متوهج على الدوام
01:40 صباحا
قراءة 5 دقائق
الشارقة: عثمان حسن

حين توفي ناظم حكمت في صقيع روسيا بعيداً عن وطنه، رثاه نيرودا في قصيدة استهلها بالسؤال: «لماذا مت يا ناظم؟ وماذا سنفعل الآن وقد حرمنا من أناشيدك؟ أين سنجد النبع الذي ننهل منه؟ ماذا سنفعل دون وجودك ودون حنانك الذي لا يلين؟». وختمها بالقول: «شكراً لكل ما كنته يا ناظم، وللنيران التي تركتها أغانيك، متوهجة على الدوام».
هذه كلمات نيرودا قالها في موت شاعر، وهي كلمات تفيض أسى ولوعة، لكنها أيضاً، تقدر الشعر، وما ينطق به الشعر، وتقف شامخة مثل جبروت البحر وكبرياء الرياح وصلادة الجبال، وعمق واتساع التضاريس، أليست تلك المفردات المذكورة صديقة الشاعر ورفيقة دربه، وهو يحمل على عاتقه كل معاني الحب والشموخ والحرية؟ إنها كذلك فعلاً.. أليست تلك أيضاً، مفردات من لحم ودم، حين كانت في زمن الشاعر تصغي لهواجسه، ونبض دمه، وتسترق السمع لخلجاته المشتعلة بالحبر والتبر والتراب.

يا للمعنى الذي يجسده الشعر، ويا للشاعر الذي يموت ويترك في وجدان أصدقائه ومحبيه، كل تلك الحرارة التي تضج بالمعنى والخيلاء.. هكذا كان أحمد راشد ثاني بالنسبة لأصدقائه الشعراء والمبدعين.
كان حياً وهو يموت، قريباً وطازجاً، كأنه هنا، في بلدته في خورفكان، يزرع الساقية وينصت للشجرة، ويسمع حفيف النخلة.

كأنه يقرأ على مسامعهم قصيدة، لم ينته بعد من فك شيفرتها، رغم أنه عارف لمآلاتها وأشواقها ووجهة ما ستسافر إليه حروفها، على مشارف اللغز والأسطورة.. كان أحمد راشد ثاني في هذه الأثناء، كأنه بدأ للتو في رسم مسار قصيدة، وملامح حروف لقصيدة لم تكتمل، هكذا كان الشعر بالنسبة إليه، زائراً خفيف الظن، يأنس إليه ويحتشد بالأسماء قربه، لأنه علامة بل إشارة على الكشف والطواف، والغزارة، كأنه يعادل، كأنه الماء، بل كأنه يعادل الوجود، ويعاين الكائن، ويشعر به على نحو ما يؤكده وجوده الفيزيائي، وعلى نحو أكثر عمقاً، في ما تؤول إليه تلك المفردات، التي تسبح بحمد الملكوت وتؤول في الكينونة والوجود، إلى آثار تدل على هذا الكائن، تتحسس مكانه وتتلفظ باسمه، وتشتم رائحته، وتقف على عتبات الحلم، تستذكر ما كانت تفيض به حنجرته، من حروف تطير، وكلمات ترفرف، ومعان سابحة، في الشجن والخيال.

خورفكان 1962

في سيرته الذاتية، ولد الشاعر أحمد راشد ثاني في مدينة خورفكان بإمارة الشارقة في عام 1962، وبدأ كتابة الشعر في أواخر السبعينيات، التصق بالشعر والمسرح والبحث من دون توقف، لكن الشعر كان خياره الأجمل والأعذب والأقرب إلى روحه، وقد عرفته الأوساط الشعرية في الإمارات والخليج والوطن العربي بوصفه شاعراً مجدداً، وذلك من خلال ما طبعه ونشره في الصحف والدوريات الكثيرة، كما ترجمت أشعاره إلى الفرنسية والألمانية، وفي جعبة الراحل الكثير من الأماسي والملتقيات والمهرجانات الشعرية، وقد توفى بعد صراع مع المرض في نوفبر/شباط من العام 2012.

من دواوينه الشعرية صدر للراحل أحمد راشد ثاني: «دم الشمعة»، و«يأتي الليل ويأخذني»، و«هنا اللذة»، و«الذي يزاوج بين عالمي الحب والبحر»، و«الغيوم في البيت».

بنى الراحل أحمد راشد ثاني شبكة من العلاقات التي امتدت على رقعة الوطن العربي، وبعد حادثة وفاته المؤسفة، التي تركت جرحاً وخسارة بطعم الفقد، تذكره أصدقاؤه من الكتاب، فها هو الشاعر حبيب الصايغ الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، يقول: «كأن الذين يحيون شعراء يأبون إلا أن يموتوا بطريقة شعرية أيضاً»، ويضيف: «فقد نشأنا معاً وكنت شاهداً على أيامه الأولى في الكتابة، منذ أن كنا نصدر الملحق الثقافي في جريدة الفجر الإماراتية، الذي كان أول ملحق مختص بالثقافة في حينها»، وها هو الشاعر اللبناني عبده وازن يقول عنه: «مات على الحافة مثلما عاش أعوامه كلها على الحافة، غير آبه للأخطار التي طالما أحدقت به، إنها حافة الوجود، التي تطلّ على الحياة من جهة، وعلى الموت من جهة أخرى، الحافة التي تفصل بين البحر والجبل، أو الصحراء في بلدته خورفكان».

ليس ذلك فحسب، فالمرحوم أحمد راشد ثاني، بالنسبة للشاعر إبراهيم محمد إبراهيم، هو ممن شاركه الهم والموهبة، وكان مثالاً في العمل والخلق والكتابة، وشريكاً ومثابراً مدفوعاً بموهبة نقية، وفقده يمثل خسارة حقيقية للشعراء والأسرة الأدبية والثقافية.

وهو بالنسبة للشاعر عبدالله السبب، ذاكرة مازالت حية تعود إلى عام 1989، حين اكتشف أصدقاؤه من المبدعين أنهم إنما يستمعون بل يعيشون حياة بطعم مختلف مع شاعر تميز بخصلة الصدق، التي هي امتداد لخصال أخرى من الود والجرأة في الرأي، ليس ذلك فحسب، بل كان المرحوم بالنسبة لهذا الوسط المبدع محفزاً على المثابرة والكتابة المختلفة، وحين نذكر الكتابة المختلفة، فهو تاريخ جميل في سيرة المبدعين، الذين كانوا على الدوام في صورة ما ينبغي للكتابة أن تسعى إليه، أو تسجله في الصفحة الأولى من كتاب الإبداع الإماراتي الحافل بالشعراء والرواد، لقد طبع أحمد راشد ثاني اسمه في سجل هؤلاء البررة، وأصحاب الغواية، غواية الشعر، الذي يوزع بالقسطاس على الشرفات، وعند الفرجان، وعلى رأس نخلة تترصد انبلاج الصبح على مقربة من شاطئ البحر لتحمل معه رائحة وطعم الطلع إلى مسافات أبعد.. والنخلة، تلك الشجرة العظيمة في أرض الخليج، ليست إلا واحدة من مفردات وكائنات في الطبيعة كان يأنس إليها الراحل، فهو كما يصفه الفنان والمسرحي المعروف مرعي الحليان، «حمل أسئلة الصحراء، هو ابن البلد، وابن البحر، وابن الموج، وابن النخيل وغيرها، ترك حبه الأزلي لبلده وإرثها، ترك عشقه الأزلي للبحر وسيرة البحارة، تلك السيرة التي كان يفتخر بها».

شعلة الشعر

لكن ذلك كله، كان بالنسبة لأحمد راشد ثاني، إنما يتوازى مع عشقه للشعر، ومن أجل شعلة الشعر، ومن أجل تلك الخلاصة التي تفتش عن آدمية الكائن، كان الشعر بالنسبة لأحمد راشد ثاني وسيلة وغاية في الآن ذاته، وسيلته إلى تلك المغامرة والفن الجميل، الذي لا يمكن وصفه بالكلمات، وهو غاية، من أجل ذلك المشروع الذي كان يحلم به دائماً، وهو مشروع ثقافي نهضوي، يستأنسه في الموجودات، وفي الحلم، الذي كان كثيراً ما يراوده، ويراه ماثلاً في كل مفردات الإبداع، وعلى رأس ذلك كله، ماثل في الحرية وأهمية الحرية، وفي الاختلاف، وفي الجدل الثقافي والفكري، الذي يستنير بالأصدقاء، وفي سر الكون، وما يفيض فيه من ألغاز وحكايات، وأفكار راسخة، كرسوخ تضاريس بلاده.

يستعاد أحمد راشد ثاني في مخيلة ووجدان أصدقائه، ويستعاد مرات كثيرة بعيدا عن البروتوكول، ورغماً عن الموت، وامتثالاً لرغبة الحب.

يقول أحمد راشد ثاني في «قَبلَ كل شيء»:
(يتم إيقاظ المطر
من سقوطه على الأرض،
وإيقاظ الأرض
من توقها إلى الانكسار،
وإيقاظ انكسار الأمواج
من غرامه بالشاطئ
يتم إيقاظ الشاطئ
قُرب باب المنزل،
وتذوق الريح
التي تهب من المياه
يتم إيقاظ المياه
من أفاعٍ تمشي في المياه،
وإيقاظ الأفاعي
من كمين العطش
يتم إيقاظ العطش إلى الحب،
وإيقاظ الحب
وقد سقط من على حافة الكلام،
والمشي في الشارع المؤدي إلى القيامة
إلى تلك اللحظة
التي تتلاطم فيها الأنفاس
كبحرٍ،
ويتسع الكون
لأكثر من أرضْ).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"