حدث في الدوحة

03:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

} أهداني قبل شهور، الصديق الدكتور علي خليفة الكواري، كتابه (العوسج).. والذي يروي فيه سيرته الذاتية، وذكريات عاشها في قطر ومصر وسوريا، وتجارب له في جامعات عربية وبريطانية، فضلاً عن أحداث مفصلية مرت بها قطر في الستينات من القرن الماضي.
} لم أسأله وقتها، عن خلفيات اختياره لهذه الشجرة المعروفة بأشواكها (العوسج)، عنواناً لكتابه، وسيرته الذاتية، وأحسب أن هذه الشجرة، ترمز إلى القدرة على تحمل الجفاف والحر، والظروف المناخية القاسية، ومواجهة تحديات عاتية.. ولعل صاحبي العزيز، فكر في هذه المعاني، وهو يستحضر ذاكرته وسيرة حياته، والأمكنة والتطورات والأحداث.. وما واجهه من صعاب وعقبات، أثناء انشغالاته الفكرية، وتحقيق طموحاته الشخصية والوطنية.
} تذكرت هذه الشجرة الشوكية، وما قيل عنها، من خرافات وأساطير، بدءاً من قصة شجرة «الغرقد» اليهودية!.. وصولاً إلى كونها طعاماً مفضلاً للإبل في الصحراء. وحطباً جيداً للوقود.
} ويعتقد بدو الأحساء والكويت، في الزمن القديم، بأن شجرة «العوسج» تقع تحت حماية الجن، ولذلك فهم يخشون قطعها أو كسر أغصانها، وكانوا حينما يقتربون منها، يعمدون إلى الدعاء إلى الله، أن يحميهم بقراءة البسملة، ورمي الشجرة بالحجارة، وقيل: إن كثرة الحجارة عند جذع الشجرة، هي نتيجة رمي الناس للحجارة عليها.. والله أعلم.
} يرصد الكواري في كتابه، مرحلة تكون المجتمع القطري في القرن التاسع عشر، ويتحدث عن رفاقه في المدرسة ونادي الطليعة، والتبلور التدريجي للسلطة والحكم، وبدايات تفجر النفط، ودور عمال النفط في حركة المطالبة بالإصلاح ورفع مستوى معيشة الناس ، ومطالب شعبية مبكرة ،في قضايا تأسيس المؤسسات الحكومية وتعريب الدوائر، وفي طلب إنشاء إذاعة وسينما، وبناء مستشفيات في الأحياء الشعبية، وإعفاء القطريين من دفع ثمن استهلاك الماء والكهرباء... الخ.
} ولفت انتباهي، ما كتبه في (العوسج) عن حركة المجتمع في مطلع الستينات، حينما واجهت قطر في تلك الفترة، ضيقاً في سبل الزرق، وتدنياً لمستويات المعيشة. وقدمت وقتها، شخصيات قطرية من مختلف القبائل والمهن والأماكن، عريضة تحمل مطالب شعبية، وتعكس تذمراً من تردي الأحوال الاقتصادية، وتفاقم البطالة.
} وقد تزامن تقديم هذه العريضة، مع لقاء شعبي خطابي في ملعب نادي التحرير، تأييداً لمشروع الوحدة الثلاثية بين ومصر وسوريا والعراق، ولم تعارض الحكومة ولا ولي العهد، انعقاد هذا المهرجان الخطابي ،لكن ما حدث بعد هذا المهرجان من اصطدام المتظاهرين بالشرطة، وإطلاق الرصاص العشوائي فجر غضباً، وولد تصرفات لم تكن في الحسبان.
} اعتقلت الشرطة التي كان يقودها الضابط البريطاني (كوكرن) والذي سمى نفسه محمد المهدي عدداً من قيادات هذه التظاهرة، وممن كتب ووقع على العريضة ومن بينهم حمد العطية، وناصر المسند وآخرون.
} كان عام 1964 عاماً حزيناً، كما يقول الكواري، للشعب القطري، وشهد سخطاً شعبياً واسعاً، وقد أدى استمرار سجن حمد العطية وناصر المسند، بدون محاكمة، إلى استحضار لمفاهيم قبلية سادت في منطقة الخليج العربي، وهي هجرة القبيلة لموطنها، حينما تشعر بالضيم، الذي لا تستطيع له رداً.
} وتعني هذه الهجرة أو «الجلوة»، نزوحاً مؤقتاً، كما تعني قبلياً، أنها سحبت تأييدها أو تحالفها مع الحاكم، ولعل ذلك يشبه مفهوم اللجوء السياسي في الوقت الراهن.
} وفي هذا الإطار، قررت قبيلة (المهاندة)، الهجرة واللجوء إلى الكويت، باعتبارها بلداً يتمتع بحريات سياسية، وبأوضاع اقتصادية أفضل، وقام عدد من زعامات هذه القبيلة (25 شخصية) باستكشاف هذا اللجوء والسفر بحراً في (لنج) إلى الكويت، وترتيب حياة النازحين لاحقاً.
} وقد شملت الهجرة، سكان مدينة الخور وقرية الذخيرة، وقرى داخلية أخرى، وآخرين ممن لهم صلة جيرة، أو تحالف أو نسب مع قبيلة المهاندة. وقدر الكواري، أن عدد المهاجرين وصل نحو خمسة آلاف فرد، أي ما يقارب من عشرين بالمائة من عدد أفراد الشعب القطري آنذاك.
} يقول الكواري: «استقال العاملون من القبيلة في شركة نفط قطر، وشركة شل، وفي الحكومة، وأغلق بعض التجار محلاتهم، واضطر التلاميذ إلى ترك مدارسهم».
} غادر (المهاندة) وحلفاؤهم قطر إلى الكويت، جماعات جماعات، عن طريق البر في خريف العام 1964، وأقاموا في الكويت، في مساكن استؤجرت لهم، وسكن معظمهم في حي الرميثية، وأعطيت لهم منح بشكل مؤقت.
} ومع مرور الوقت، بدأت القبيلة المهاجرة تواجه بعض الصعوبات الحياتية، وضيق إمكانيات العمل، إضافة إلى ضغوط بريطانية، وأخرى من الجامعة العربية، والتي رأت أن هجرة هذه القبيلة العربية، ستحدث فراغاً سكانياً، وضعفاً للوجود العربي في قطر، كما قامت صحف كويتية ومجلس الأمة الكويتي بدعوة حاكم قطر للاستجابة لمطالب المهاجرين وإعادتهم لوطنهم.

} وازدادت أعباء المهاجرين، بعد أن بدأت مدخراتهم بالنفاد، وأمام كل هذه الضغوط، أدرك زعماء هذه القبيلة، بأن عودتهم إلى ديرتهم أفضل من بقائهم في الكويت، وبدأ رجوع (المهاندة) إلى قطر بشكل فردي.. ولسان حالهم يقول: «من خرج من داره قل مقداره).
} في مطلع عام 1965، كما يقول الكواري، عاد كل من هاجر من (المهاندة) إلى قطر، وباشروا أعمالهم، باستثناء عبدالله المسند وأبنائه وعائلاتهم، وبقوا في الكويت، ولحق بهم فيما بعد ناصر المسند، بعد أن أطلق سراحه من السجن، وأبعد من قطر، عندما مات حمد العطية في السجن في نوفمبر 1965.
} استمر عبدالله المسند وأبناؤه في الكويت، حتى قيام «الحركة التصحيحية» في قطر عام 1972، حيث عاد المسند وعائلته من الكويت، بعد أن اتصل به الشيخ خليفة بن حمد، عندما تولى الحكم، مرحبا بعودتهم إلى الوطن.. أما ناصر المسند فإنه لم يقبل العودة إلى قطر إلا عام 1977.
} الصديق علي الكواري.. لحقه نصيب من تبعات ما جرى في قطر، ففي سبتمبر عام 1964، وصل القاهرة لمتابعة دراسته الجامعية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكان من زملائه في الكلية أحمد خليفة السويدي، أمد الله في عمره، وهدى جمال عبد الناصر.
} وفي مطار القاهرة، فوجئ بأنه ممنوع من الدخول إلى مصر.. وتمت إعادته إلى الدوحة، وبعدها بشهور، توجه إلى جامعة دمشق، ليكون الطالب القطري الوحيد في سوريا.
} الصديق أبو جاسم.. الدكتور علي خليفة الكواري، مفكر واقتصادي من طراز رفيع.. كم نحتاج لأمثاله، وكم نحتاج لمن يكتب (عوسجه) كما كتب الكواري (العوسج).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"