المحطة الأخيرة للإلهام

01:58 صباحا
قراءة 5 دقائق
 القاهرة: مدحت صفوت

تهز القلم فلا يكتب شيئاً، ليس الحبر جافاً، إنما أفكارك هي التي جفت أو نضبت، تشعر وكأنك عالق بعيداً عن مصادر الإلهام، ينتابك القلق، فلربما وصلت إبداعياً إلى المحطة الأخيرة.. فهل حقاً توجد محطة أخيرة للعملية الإبداعية؟

مع أي توقف طويل نسبياً عن الإنتاج الأدبي أو الإبداعي، قد يفكر المبدع في هجرة الإبداع والتوقف التام، في حين قد يكون التوقف مجرد حالة مؤقتة، مسألة عابرة، سكتة غير دائمة تصيب الكتاب والفنانين التشكيليين والمؤلفين الموسيقيين، تعرف ب«Creative Block» أو «Writer Block».

نعود للسؤال مرة أخرى، لماذا يهجر الكتاب العملية الإبداعية؟ يحوي التراث العربي واحدة من بواكير المحاولات التي تسعى إلى الإجابة عن هذا السؤال عبر تفسير العملية الإبداعية برمتها، ممارستها أو التوقف عنها.

ربط العرب القدامى بين الكتابة الإبداعية والشياطين والجن، وسادت الرؤية الأسطورية عن الإلهام وإنتاج النصوص، فالكتابة عملية وحي يتلقاها الشعراء من جنّ وادي عبقر، وادٍ في الصحراء العربية، تسكنه الجن، مخلوقات رائعة الحسن تشبه بها كل امرأة جميلة أو رجل وسيم كما جاء في بيت قيس بن ميمون «الأعشى»، «كهولاً وشباناً كجنة عبقر».

وتقول الروايات إن شعراء الجن يسكنون وادي عبقر منذ زمن طويل، ويقال إن من أمسى ليلة في هذا الوادي جاءه شاعر أو شاعرة من الجن تلقنه الشعر، فكل شاعر كان له قرين من هذا الوادي يلقنه الشعر، سواء كان هذا القرين ذكراً أم أنثى على حد قول أبي نجم العجلي «شَيطانُهُ أُنثَى وَشَيطاني ذَكَرْ/ فَما رَآني شاعِرٌ إِلّا اِستَتَرْ».

والتصور العام عن سكان «عبقر» تمحور حول كونها مخلوقات فائقة القدرة تصنع ما يعجز البشر عن صنعه، وتصل إلى الغاية التي يطلبها الناس ولا يدركونها، حسبما يقول أبو العلاء: المعري «وقد كان أرباب الفصاحة كلما/ رأوا حسناً عدوه من صنعة الجن».

وتروي الأسطورة العربية أن شيطان الإلهام والكتابة الجيدة كان يُدعى «الهوبر»، وهو بمثابة آلهة الإلهام في الميثولوجيا الإغريقية القديمة، وهن إلهات أخوات عرفن كمصادر إلهام أثناء التأليف الموسيقي، وفي أوقات لاحقة، بملهمات جميع أنواع الفنون والشعر والعلوم، واعتبرن في بعض الأحيان تجسيدات لها، وحثت المعتقدات اليونانية القديمة على التوسل إلى ربات الفنون لتعينهم على نظم الشعر وساد اعتقاد بينهم أن الشعراء أبناء الآلهة.

أما في حال هجرة الشعر أو نظم نصوص رديئة، فرأت الأسطورة العربية أن السبب وراءها هو سيطرة الجن «الهوجل»، وهو المسؤول عن نضوب الكتابة وهجرتها، ومن ثم عزى العرب سبب التوقف عن الإبداع إلى قوى خفية مثلما وقفت القوى ذاتها وراء الإنتاج والإلهام.

هنا يرى الجاحظ أن الاعتقاد بأن الشاعر شخص استثنائي محاط بقوة خفية جعل العرب تقيم احتفالات واسعة إذا نبغ لها شاعر، وهو تصور يشترك فيه العرب وغيرهم من الثقافات القديمة، فأبناء حضارات أمريكا اللاتينية القديمة رأوا أن «الشعر ليس قوة خاضعة لأحكام الإرادة، وإنما لقوة خفية»، مما غذى في النفوس أن الإبداع منحة والتوقف عنه انقطاع لهذه المحنة، ويجملها الفرزدق بقوله «أنا أشعر الناس عند اليأس وقد يأتي علي الحين، لخلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر».

الشياطين ليست وحدها السبب وراء هجرة الإبداع، فثمة شعراء توقفوا عن الكتابة لأسباب تتعلق بالمعتقد ورؤيتهم الدينية لكتابة الشعر، وأشهرهم لبيد بن ربيعة، الذي عاش طويلاً بعد دخوله في الإسلام، لكنه بقي ثابتاً على موقفه باعتزال الشعر بشكل كلي أو جزئي؛ بل إنه بلغ التسعين فقال: ولقد سئمتُ من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ؟

وبعدما غادر الشعر منحه عمر بن الخطاب عطاء نظير ذلك، وتشير المرويات إلى أن عمراً أرسل إلى عامله بالكوفة: سل لبيداً ما أحدث من الشعر في الإسلام؟ ليجيب الأخير «أبدلني الله بالشعر سورتي البقرة وآل عمران».

التفسير النفسي

ومع التطور الزمني والمعرفي، عملت الدراسات النقدية من جهة ومتخصصي علم النفس الإبداعي على البحث عن أسباب الانقطاع عن الكتابة وهجرتها، سواء كان انقطاعاً مؤقتاً أو دائماً، بخاصة بعدما شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية موجات من عزوف الكتاب والمبدعين عن إنتاج أي عمل فني أو أدبي، كما شهدت عيادات الطب النفسي وقتها زيارات الكثير من الكتاب الأمريكيين، مما دفع بالمحللين النفسيين لربط الأدب بمرض العُصاب، وصُك مصطلح «الجنون الخلاق»، وتعزية التوقف عن الكتابة لأسباب نفسية.

الإحساس بالعجز النفسي، سبق وأن مر بها عشرات؛ بل مئات الكتاب طوال تاريخ الإنسانية، وفي أعمار متباينة، ولا يشترط أن يكون في نهاية العمر أو في سن متقدمة، ولعل أبرز الذين هجروا الإبداع مبكراً الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي ولد منتصف القرن التاسع عشر، وتوقف عن كتابة الشعر في العشرينات.

أما الشاعر الإنجليزي صامويل تايلر كولريدج، المولود في أواخر القرن الثامن عشر، فبعدما أعلن مع زميله ويليام ووردزوورث، بدء الحركة الرومانتيكية في إنجلترا بديوانهما المشترك «الأناشيد الغنائية»، وبعدما وصل إلى سن الثانية والثلاثين عاش عاماً كاملاً دون أن يكتب، يروي كوليردج «يا للأسف، لقد صرت خاوي الوفاض».

وجراء تعاطي الأفيون، تراجع إنتاج كولريدج بعدما تخطى الثلاثين، إلى أن توقف نهائياً قبل أن يموت في عام 1834، وتشير المرويات إلى أن أحد أصدقائه سأله «كيف توقفت عن الكتابة؟ ولماذا لم تتمكن من شحذ عزيمتك مرة أخرى؟»، فيجيب كولريدج «العودة إلى الكتابة تتطلب مني التضرع إلى الرب، لكن أزمتي تكمن في عجزي عن رفع يدي للدعاء».

رأي المبدعين

من جهة المبدعين، يرى الكاتب الأمريكي جيف جوينز، أن التوقف عن الكتابة المؤقت والدائم، ليس كما يعتقد أرباب علم النفس الإبداعي، ليست حالة طبية تصيب الكتاب في كل مكان، وليست مرضاً يمنع المؤلف من أداء أعماله وإنتاج أفضل أعماله، ويقول صاحب كتاب «المؤلفون الحقيقيون لا يجوعون» «التوقف عن الكتابة ليس فيروساً يتحكم في العملية الإبداعية، مما يجعل المبدع عديم الفائدة».

الكاتب الذي يصنف من المؤلفين الأكثر مبيعاً، يتساءل عن عدم تعرض الأشخاص الآخرين في مهن أقل إبداعاً لعقبات التوقف؟ فالمحترفون في الصناعات لا يتحدثون عن موانع نفسية من قبل قوى غير مرئية وخارجة عن سيطرتهم، فالروائية الأمريكية إليزابيث جيلبرت تعلنها صراحة «لا يوجد مهندسون يعانون تبلداً هندسياً».

إذاً ثمة من يرى أن التوقف عن الإبداع دفاع استباقي لشخص مبدع ضد الآخرين، جدار بين المؤلفين والجمهور، وليست مرضاً، موقف ذاتي، ويذكر جوينز، أنه بمجرد إعلان الكاتب عن التوقف عن الكتابة يهز القراء رؤوسهم في تعاطف، «يمكن أن يكون ذلك صعباً، ونتأمل أن تتحسن صحتك سريعاً»، ليقر بوضوح «هجرة الإبداع ليست حقيقة، إنما عملية تدور فقط في ذهن المبدع وللأسف يصدقها، عندما نعتقد بأننا محجوبون، نصبح محجوبين».

انقطاع مثمر

هناك حالات أخرى من التوقف عن الكتابة يستعد فيها المبدع لعمل مميز، وهو ما حدث مع الروائي الألماني روبرت موزيل «1880-1942» الذي توقف لمدة عشرة أعوام كاملة، حتى أصدر روايته اللافتة «رجل بلا صفات»، ويرى البعض أن أعماله التي سبقت توقفه وكأنها كانت مجرد تمرينات لكي يكتب هذه الرواية، يُشّرح موزيل في هذه الرواية القيم الوهمية والأخلاق الكاذبة، التي يحملها العصر الرأسمالي الحديث، ويطرح الكثير من الأسئلة الوجودية، حتى وصف بعض النقاد الرواية بالعمل الاستثنائي المذهل الذي يذكرنا ب«عوليس» لجيمس جويس، و«البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"