العلاقات الروسية الألمانية . . مدّ وجزر

03:09 صباحا
قراءة 6 دقائق
د . نورهان الشيخ *
أثار إعلان البرلمان الروسي عن عزمه تشكيل لجنة لحصر الأضرار التي ألحقتها ألمانيا بالاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية ومطالبتها بتعويضات لا تقل عن 4 تريليونات يورو، العديد من التساؤلات حول حقيقة الأسباب التي تكمن وراء هذا القرار، ولماذا الانتظار الروسي سبعة عقود لفتح هذا الملف؟
من المعروف أنه على مدى ما يزيد على العقدين تطورت العلاقات الروسية الألمانية وأصبحت استراتيجية للبلدين . فقد تنازلت موسكو السوفييتية عن نفوذها في ألمانيا الشرقية، وباركت إعادة توحيد الألمانيتين مطلع التسعينات، وكان ذلك بداية صفحة جديدة من التقارب والتعاون بين روسيا الاتحادية وألمانيا الموحدة . وقد ظل الدفء والنمو المطر السمة المميزة للعلاقات بين البلدين، ساعد على ذلك انتهاء الحرب الباردة والتحسن الملحوظ في العلاقات الروسية الأمريكية . فلم يكن هناك تناقض بين تحالف ألمانيا الراسخ والأصيل مع واشنطن، وكونها حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وعضواً في حلف الناتو منذ الخمسينات، وبين تطوير العلاقات الروسية الألمانية في إطار التقارب الروسي الغربي .
وأصبحت ألمانيا أكبر شريك تجاري لروسيا في الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 55 مليار دولار، ومثلت صادراتها ثلث إجمالي الصادرات الأوروبية لروسيا . كما تعتمد ألمانيا اعتماداً أساسياً على موارد الطاقة الروسية وتعتبر أكبر مستورد أوروبي للطاقة من روسيا . هذا إلى جانب التعاون التكنولوجي بين البلدين والاستثمارات الألمانية الواسعة في روسيا، حيث يوجد ستة آلاف شركة ألمانية لديها أعمال تجارية وشراكات مع روسيا . وحتى على المستوى الشخصي ساعد إتقان المستشارة الألمانية للغة الروسية، حيث نشأت في ألمانيا الشرقية وفي ظل الشيوعية السوفييتية، وإتقان الرئيس الروسي بوتين الألمانية على التواصل المباشر والحوار بين الطرفين . لتصبح العلاقات بين البلدين هي الأكثر حميمية في إطار العلاقات الروسية الغربية عامة حتى اندلاع الأزمة الأوكرانية نهاية عام 2013 .
فمع عودة الحرب الباردة وتوتر العلاقات الروسية الأمريكية على خلفية الأزمة الأوكرانية، تجاذبت ألمانيا التناقضات، وحاولت الوفاء بالتزامات التحالف مع واشنطن دون المساس بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، وهو ما بدا أمراً ليس باليسير، ووجدت برلين نفسها مضطرة للاختيار بين طرفي المواجهة في كثير من المواقف . وبدلاً من أن تلعب دور الوسيط بين موسكو وواشنطن، انحازت للأخيرة لتصبح المحاور الغربي مع بوتين .
وتحت ضغوط أمريكية شديدة قام الاتحاد الأوروبي، الذي تقوده ألمانيا، بفرض حزم متتالية من العقوبات على روسيا لم يسبق لها مثيل منذ الحرب الباردة، استهدفت قطاعات رئيسية في الاقتصاد الروسي، هي الطاقة وصناعة الأسلحة والقطاع المالي، وطالت شخصيات روسية سياسية واقتصادية بارزة وشركات وبنوكاً أيضاً، وضمت "القائمة السوداء" الأوروبية وحدها إجمالي 95 شخصاً و23 شركة وبنكاً . ولولا ضغوط واشنطن ما كان قد تم فرض هذه العقوبات، وقد أشار إلى ذلك صراحة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال كلمته أمام كلية كيندي للإدارة بجامعة هارفارد، عندما أعلن بوضوح أن أوروبا لم تكن ترغب في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا على خلفية النزاع في أوكرانيا، وأن إدارة الرئيس الأمريكي أوباما أجبرتها على تلك الخطوة وعلى تحمل الخسائر الاقتصادية الناجمة عن ذلك، وأن الاتحاد الأوروبي مجرد تابع لواشنطن تأمره فيطيع . وهو ما أثار غضب أوساط عدة في ألمانيا اتهمت سياسة حكومة المستشارة أنجيلا ميركل "بالانبطاح الكامل لرغبة واشنطن" في عزل روسيا وإضعافها .
وتدريجياً صعدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من لهجتها على نحو لم يعد مقبولاً من جانب بوتين وموسكو . ففي خطاب لها في أستراليا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أشارت إلى أن "صبرها إزاء الرئيس الروسي حول النزاع في شرق أوكرانيا بدأ ينفد"، واعتبرت أن روسيا "انتهكت وحدة وسيادة أوكرانيا"، و"إن أوروبا ستستمر في ممارسة الضغط عليها" حتى تغيير موقفها . تلى ذلك اتهام ميركل بوتين بأنه يقوض "النظام السلمي في أوروبا"، وكان خطابها هذا الأكثر نقداً وهجوماً من جانب المستشارة الألمانية التي دائماً ما تكون حذرة في خطاباتها العامة .
كما قررت برلين تأجيل المشاورات الحكومية السنوية مع روسيا المعروفة باسم حوار بطرسبرغ لأجل غير مسمى، وتبادل البلدان طرد دبلوماسيين في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي . ودعمت ألمانيا تمديد الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على روسيا نهاية الشهر الماضي لستة أشهر مقبلة، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لتشديدها وتتضمن اقتراح أسماء جديدة في غضون عشرة أيام تضاف إلى قائمة المسؤولين والأشخاص الروس والأوكرانيين المشمولين بإجراءات منع السفر إلى الاتحاد الأوروبي وتجميد أصولهم، وبدء التحضير لإجراءات مقبلة يمكن أن تطال الاقتصاد الروسي . وذلك رغم دعوة روسيا وبوتين المتكررة لرفع هذه العقوبات، والتأكيد على أنها تلحق الضرر بالاقتصاد الألماني والأوروبي أيضاً . وتجاهل معارضة عدد من الدول الأوروبية لتمديد العقوبات التي وصفها رئيس المجر "بالشخص الذي أطلق النار على قدمه"، وأعرب عن عدم رضا بلاده عنها .
في هذا السياق يمكن تفهم خطوة البرلمان الروسي، وهو ما أشار إليه صراحة النائب عن الحزب الليبرالي في مجلس الدوما الروسي، ميخائيل ديجتياريف، الذي رأى أن التعويضات "مسألة ملحة للغاية، خصوصاً أن ألمانيا مستمرة في إلحاق الضرر بروسيا من خلال تمديد العقوبات غير القانونية في الاتحاد الأوروبي" .
فقضية التعويضات ما هي إلا ورقة ضغط تلوح بها موسكو في وجه برلين لتخفف من هجوم الأخيرة عليها . ويعتبر هذا ضمن أسباب أخرى وراء اتجاه ألمانيا إلى محاولة التهدئة، وتأكيدها مطلع الأسبوع الجاري أن "الغرب يرغب ببناء الأمن الأوروبي بالشراكة مع روسيا وليس ضدها" . وتأكيد رفضها تزويد أوكرانيا بالأسلحة وأن ذلك لن يسهم في حل الأزمة . وإعلان دعمها لفكرة إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحادين الأوروبي والأوراسي الذي يضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا .
هذا إلى جانب إطلاق المبادرة الألمانية الفرنسية لدفع التسوية السلمية للأزمة في أوكرانيا وزيارة ميركل وهولاند لأوكرانيا ثم روسيا يومي الخميس والجمعة الماضيين لوضع آلية لتطبيق اتفاقات مينسك للتسوية في أوكرانيا، والتي توجهت ميركل بعدها إلى واشنطن لاستكمال مباحثاتها مع أوباما يوم 9 فبراير/ شباط .
وكان الوضع في شرق أوكرانيا قد شهد تفاقماً على نحو خطير خلال الآونة الأخيرة حيث اتجهت كييف إلى حسم الأمر عسكرياً، مما أدى إلى تدهور الأوضاع إلى الحد الذي قد يدفع روسيا للتدخل . وترى موسكو أن السلطات الأوكرانية انتهزت فرصة الهدنة وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 9 ديسمبر/ كانون الأول بين دونيتسك ولوغانسك من جانب والسلطات الأوكرانية من جانب آخر، بوساطة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي وزادت حدة قصفها وتعزيز وجودها العسكري في شرق أوكرانيا، ووصف بوتين الجيش الأوكراني بأنه "الفيلق الأجنبي لحلف الناتو" . ومن ثم كانت المبادرة الألمانية الفرنسية التي تتضمن إنشاء منطقة معزولة السلاح جنوب شرق البلاد تمتد من 50 إلى 70 كم بهدف أساسي، وهو استيعاب الغضب الروسي إزاء التصعيد العسكري لكييف وتهدئته حتى لا تنجرف الأزمة في آتون حرب شرسة تورط الأطراف الدولية في مواجهة مدمرة للجميع .
إلا أن القمة الثلاثية بين روسيا وألمانيا وفرنسا قد تزامنت مع إعلان أوباما الاستراتيجية القومية الأمريكية لعام ،2015 والتي في ضوئها مازالت واشنطن تصر على فكرة زعامة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم، وما وصفته بحق واشنطن في تحديد الأجندة الدولية، وتضع روسيا وتنظيم "داعش" الإرهابي وحمى إيبولا كأبرز تهديدات أمنها القومي، كما تزامنت مع قرار حلف شمال الأطلسي نشر قوات تدخله ومراكز قيادتها، والتي تصل إلى 30 ألف فرد، بينها المجموعة الطليعية التي تضم 5 آلاف عنصر في 6 دول بأوروبا الشرقية، فيما اعتبر أكبر تعزيز لإمكانات الحلف العسكرية منذ انتهاء الحرب الباردة . وأكد ألكسندر فيرشبو نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "أنه يتعين على الغرب أن يعد نفسه لمواجهة طويلة مع روسيا بشأن أوكرانيا وألا يستأنف العلاقات معها بسرعة، كما فعل بعد الحرب في جورجيا" . هذا في حين أعلنت موسكو مراراً معارضتها لأي تعزيز لوجود قوات حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا، واتهمت الحلف باستغلال الأزمة الأوكرانية كذريعة لتضخيم وجوده العسكري في شرق القارة الأوروبية، واعتبرت هذا تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وأعلن بوتين أن ما يجري حالياً ليس حرباً ضد روسيا، بل محاولة لتجميد تنميتها، مؤكداً أن "نظاماً عالمياً يقوده زعيم واحد أمر لن تقبل به روسيا أبداً" . الأمر الذي يعني أن المواجهة الروسية الأمريكية في أوكرانيا مازالت ممتدة، وستظل ألمانيا حائرة بين إرضاء واشنطن وعدم إغضاب موسكو .

* أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"