صراع على القطب الشمالي

04:11 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

تشتد المنافسة حول منطقة القطب الشمالي بين القوى الكبرى في العالم، خاصة بين روسيا والولايات المتحدة، بعد أن أثبتت الدراسات والمسوح الجيولوجية أن أراضي المنطقة تحتوي على ثروات هائلة، يكفي أن نذكر أن بينها ربع احتياطيات العالم من النفط والغاز، بالإضافة إلى نسب كبيرة من احتياطيات النحاس والنيكل والكوبالت والكروم والمنجنيزوالذهب والألماس .تقدر قيمة هذه الثروات بأكثر من «30 تريليون دولار».
ومع بروز ظاهرة «الاحتباس الحراري» وتزايد ذوبان الثلوج في القطب الشمالي ظهر وجه آخر لأهمية المنطقة يتمثل في إمكانية تسيير خط للملاحة البحرية «الطريق البحري الشمالي» يصل ما بين موانئ شمال وغرب أوروبا، وموانئ شرق آسيا في الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ليوفر نحو «40%» من المسافة عبر قناة السويس، وستة أيام من زمن النقل، خلال فصل الصيف بالذات «3 شهور» علماً أن المدة قابلة للزيادة مع تزايد ظاهرة «الاحتباس الحراري».. وهو الأمر الذي يوفر موارد طائلة من نفقات النقل، بالإضافة إلى الابتعاد عن مناطق القرصنة حول مضيق ملقاد منطقة المحيط الهندي، وعن مناطق الأزمات كمضيق باب المندب.
وبناء على ذلك اكتسب هذا الطريق أهمية استراتيجية بالنسبة للصين «أكبر مصدري العالم» وبالنسبة لروسيا التي يمر الجزء الأكبر من الطريق البحري الشمالي بالقرب من سواحلها. وإذا كان استخدام هذا الطريق لا يزال في بدايته «بنقل 20 مليون طن من البضائع».. فإن روسيا تخطط لزيادتها إلى «80» مليون طن بحلول عام 2025.. وهو ما سيجعل من الطريق البحري الشمالي شرياناً ملاحياً استراتيجياً ذا أهمية كبيرة للتجارة العالمية، وبناء على ذلك أصبحت الصين من أكثر الدول الكبرى اهتماماً بهذا الطريق.. علماً أن روسيا تستطيع إطالة أوقات استخدام الطريق الجديد بفضل أسطولها من كاسحات الجليد الثقيلة، الذي يستطيع إزاحة الكتل الجليدية أمام السفن التجارية والعسكرية على السواء.
ولذلك كله كان من الطبيعي أن يزداد اهتمام الولايات المتحدة أيضاً بالطريق البحري الشمالي لأنه يعطي روسيا أوراق قوة جديدة سواء في علاقاتها بأوروبا الشمالية والغربية، أو في سهولة الانتقال بين موانئها في المنطقة القطبية «درومانسك غرباً وبتروبافلونسك في كاشاتكا شرقاً على المحيط الهادي» وهي مسألة ذات طابع تجاري وعسكري على السواء.
وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية حدثين دوليين يتسمان بالأهمية فيما يتصل بالمنطقة القطبية الشمالية والطريق البحري الشمالي، والسباق على النفوذ في الدائرة القطبية الشمالية.
} أولهما: «منتدى منطقة القطب الشمالي- منطقة للحوار» الذي انعقد في سان بطرسبرج «روسيا» على مستوى القمة، وحضره رؤساء وزعماء كل من روسيا وفنلندا والسويد والنرويج وآيسلندا «9/‏10 إبريل» أي خمسة من ثمانية أعضاء في «مجلس القطب الشمالي».. بينما غابت عنه الولايات المتحدة وكندا والدنمارك الدول الأعضاء في المجلس المذكور».
ومعروف أن الولايات المتحدة تطل على القطب الشمالي من خلال ولاية ألاسكا الشمالية الغربية بعرض يصل إلى 200 ميل بحري أي حوالي 320 كم بينما تطل عليه الدنمارك من خلال جزيرة جرينلاند الشهيرة الواقعة شمالي المحيط الأطلسي.. وتطل عليه كندا بسواحل طويلة.. ومعروف أيضاً أن «مجلس القطب الشمالي» يمثل إطاراً للحوار حول قضايا الأمن والسلام، والاستغلال الاقتصادي للمنطقة. ولذلك كان غياب الولايات المتحدة بالذات لافتاً للانتباه.
وقد أعلن بوتين في قمة بطرسبرج عن استراتيجية موسكو تجاه القطب الشمالي، مؤكداً أهمية المنطقة للاقتصاد الروسي، ونية بلاده في تحديث موانئها في المنطقة «دورمانسك» في الغرب و«بتروبافلونسك» في الشرق الأقصى. وتحديث البنية التحتية في المنطقة عموماً، وداعياً المستثمرين الأجانب إلى المساهمة في هذه العملية ذات الآفاق الواعدة مع التعهد بحماية وضمان استثماراتهم. كما أعلن أن حركة النقل عبر الطريق البحري الشمالي شهدت نمواً ملحوظاً خلال الأعوام الأخيرة، وبلغت 20 مليون طن.. وأن روسيا تخطط لزيادتها إلى 80 مليون طن بحلول عام 2025.
ومعروف أن القطب الشمالي يختزن ثروات طبيعية هائلة تصل قيمتها إلى «30 تريليون دولار- ثلثاها من النفط والغاز» كما سبق أن ذكرنا.. أما بالنسبة لروسيا فهي تختزن 80% من احتياطيات الغاز و90% من احتياطيات النيكل والكوبالت و60% من احتياطيات النفط والنحاس و40% من الذهب و100% من الألماس النقي و90% من الكروم والمنجنيز. وتقدم 11% من الدخل القومي و 22% من الصادرات «RT - 30 مارس 2017 نقلاً عن خطاب لبوتين».
ولذلك أكد بوتين في منتدى بطرسبرج اهتمام بلاده بالإنتاج على مشاركة المستثمرين الأجانب، وضمانها لاستثماراتهم، كما أشارت وسائل الإعلام الروسية إلى خطة موسكو لبناء «13 كاسحة جليد ثقيلة حتى عام 2035، منها 9 كاسحات تعمل بالطاقة النووية»..
} الحدث الثاني المهم بشأن القطب الشمالي هو اجتماع وزراء خارجية «مجلس القطب الشمالي» في مدينة روماتيمي بشمال فنلندا ويشار إليه في الإعلام خطأ.. بأنه اجتماع هلسنكي- العاصمة، الذي حضرته جميع الدول الأعضاء، وبعض الدول المراقبة 7/‏8 مايو الجاري وشهد الاجتماع هجوماً حاداً من جانب وزير الخارجية الأمريكية بومبيو على روسيا، متهماً إياها بالرغبة في فرض سيطرتها على المنطقة القطبية الشمالية، والطريق البحري الشمالي «بدعم من الصين».. ومعلناً رفض بلاده لأي صلاحيات خاصة لروسيا في الطريق البحري الشمالي كمنح أذون الإبحار أو وجود مرشدين بحريين روس على متن السفن العابرة، ومطالباً بتدويل الطريق الشمالي، كما رفض بومبيو الإشارة إلى القضايا البيئية، خاصة مسألة «الاحتباس الحراري» وأهميتها في الحفاظ على مناخ القطب الشمالي والكرة الأرضية.
والواقع أن أجواء المواجهة التي شهدها اجتماع «مجلس القطب الشمالي» قد عكست استياء الولايات المتحدة من التقدم الواضح الذي تحققه روسيا في المنافسة على القطب الشمالي سواء من الناحية الاقتصادية أو العسكرية حيث أقامت روسيا عشرات القواعد العسكرية، بما فيها المطارات، وتمتلك أسلحة قادرة على العمل في المناخ القطبي قارس البرودة، من طائرات مقاتلة ومدرعات ومنظومات للدفاع الجوي وغيرها، فضلاً على قدرة الجنود الروس على تحمل هذه الظروف المناخية القاسية، ما يعطي روسيا تقدماً واضحاً في المنافسة، علماً أنها تمتلك أكبر سواحل مطلة على المحيط المتجمد الشمالي. كما أن كاسحات الألغام الثقيلة الروسية لا غنى عنها لتقدم السفن المبحرة عبر الطريق الشمالي وتحميها من الاصطدام بالكتل الجليدية الضخمة التي يمكن أن تغرقها.
ويشير كل هذا إلى أن روسيا كانت تعبر عن وقائع الأمور حينما زرعت علمها في أعماق المحيط المتجمد الشمالي عام 2007، بغض النظر عن الطابع الرمزي للخطوة.. غير أن ضرورات السلام والأمن العالميين تقتضي في جميع الأحوال عدم المضي في عسكرة القطب الشمالي، والتوصل إلى ترتيبات تراعي مصالح وحقوق جميع الدول المطلة عليه، بعيداً عن أجواء المواجهة والتهديد.

* كاتب ومحلل سياسي. خبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"