بوابة الفنان إلى الإنسان

03:13 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة: «الخليج»

شغل الوجه الإنساني اهتمام الكثير من الفنانين التشكيليين على مر العصور، ربما منذ أن بدأ الوعي باللون والخط، وقد عبر الكثيرون عن الوجه بطرق وأساليب ذات أبعاد تشكيلية وتعبيرية مختلفة، لأن طبيعة الوجه ما هي إلا وليدة عوامل شعورية، تتفاعل داخل الإنسان، فتتأثر ملامحه وتنطبع آثارها عليه، وبذلك تفصح الأعمال الفنية، القائمة على توظيف الوجه، كمفردة تشكيلية، عن المعاني التعبيرية التي تعكس مشاعر الإنسان.

لم تتجاهل الفنون القديمة مجال الصورة الشخصية، أو الوجه، وحديثا لاقت اهتماماً أكبر، وسعى الفنانون إلى تناول الوجه بصور مختلفة، فقد تناول الفنان البريطاني «فرانسيس بيكون» دراسة تجريبية عن تحريف وجوه الرجال، وكانت النتيجة أنه توصل إلى عدد كبير من الصور، التي تتميز بتنوعها الشديد، وتحريفها الواضح، وبعدها عن الواقعية التسجيلية، كما تنوعت الأساليب والمعالجات الفنية من فنان لآخر، ومنهم «بيكاسو» حيث أدى إدخال أبعاد جديدة، ومنطلقات مستحدثة.

كان الوجه في الفنون التشكيلية موضوعاً لعدد من الرسائل العلمية في الجامعات المصرية، ومنها دراسة محمد الناصر «الصورة الشخصية وأبعادها الاجتماعية والنفسية في التصوير المصري القديم والحديث»، و«فن الصورة الشخصية في مصر بين الكلاسيكية العائدة والمدرسة التأثيرية» لسعيد رستم، إضافة إلى دراسة أحلام فكري التي صدرت في كتاب بعنوان «التعبير عن الوجه الإنساني في التصوير المعاصر».

مفهوم أشمل

أغلب هذه الدراسات تناول الصورة الشخصية، في حين أن أحلام فكري تناولت الوجه فقط، كأحد مفردات التشكيل في التصوير، والوجه مفهوم أعم وأشمل من الصورة الشخصية، لكونه يشملها بما تتضمنه من تعبيرات، ولأهمية الرسم والتشكيل فإن الروائية البريطانية «جورج صاند» كانت ترى أن: «الكلمة تبقى على عتبة دار الرسم، من دون أن تعبرها، فلو دخلت، لتحولت إلى لون وخط».

إن التعابير تسكن أشكال وألوان عضلات الوجه، وخطوطه، وهذا ما برهن عليه «جيرفي روسو» في رسومه المنشورة في كتاب «الوجوه والطباع»، كما أن كثيراً من رسوم ليوناردو دافنشي، حاول تسجيل سمات الوجه ودراستها، وقد رصد الفنان حالات عدة متميزة، منها وجوه الفلاسفة، والمجرمين، والمشردين، والمعتوهين، كما رصد الطباع وعلاقتها باللون والشكل، كالوجه الأحمر الدموي، والمزاج الصفراوي، والمزاج العصبي، والمزاج الكسول.

أما بالنسبة لوجه «الموناليزا» فإن أبرز ما فيها هو ابتسامتها، التي تبدو سماوية ملائكية أكثر منها بشرية، وكل من رآها أصيب بالدهشة، لكونها ابتسامة مفعمة بالحياة، كما لو كانت حقيقية، لكن هناك آخرون، من بينهم الروائي «أوسكار وايلد»، رأوا أن «ليوناردو دافنشي» كان «مجرد عبد لابتسامة ساخرة»، وفي كل الأحوال، فإن وجه الإنسان مثله مثل أي مثير جمالي آخر، فيه ما يحرك في الفنان نوازع الخلق، ويحفزه على استنطاق الأسرار، بما يتيحه له أسلوبه الفني، ولأن الأساليب متعددة، فالنتائج أيضاً تكون كذلك، تبدأ من نقل الواقع، وتنتهي إلى التحريف الكامل، وتحتفظ برغم ذلك، بصلتها بالنموذج المراد رسمه.

اللامرئي

تضيف عين الفنان إلى ما تراه شيئاً معنوياً آخر، لا يلاحظه الآخرون في الصورة الظاهرة، ويغلف به الواقع المرئي، وهذا ما يؤكده تعريف دائرة المعارف البريطانية لفن الصورة الشخصية، فالبورتريه هو تسجيل لملامح معينة في شخص معين، كما يراها شخص آخر، وقد يكون الفنان مهتماً بالملامح الخارجية للشخصية فقط، أو أن يكون مهتماً بملامحها الداخلية، ومكانتها الاجتماعية، أو مشكلاتها الداخلية، في اللاوعي، وقد يلتزم بالواقع أو يحيد عنه بأساليب جديدة.

الطريق المضاد

ورغم أن بول سيزان، وفان جوخ، يعتبران المؤسسين للمدرسة الفنية الحديثة، إلا أن كلاً منهما اتخذ طريقاً مضاداً، ففي الوقت الذي حاول فيه سيزان تحويل مسار المذهب التأثيري إلى أسلوب كلاسيكي أكثر صلابة، نجد أن فان جوخ اتجه إلى البحث عن مزيد من الحرية، للتعبير عن عواطفه الشخصية، ولذلك يمكن أن توصف بعض أعماله، بأنها رومانتيكية تعبيرية.

واهتم سيزان برسم العديد من البورتريهات، خاصة لزوجته، ونستطيع أن نتعرف إلى التطور الذي أحدثه في أعماله، في تلك الفترة، من خلال ذلك البورتريه المرسوم لزوجته، فنجد الشكل البيضاوي الصافي للوجه، بعينيه، وشفتيه الغارقتين في الغموض، والدرجات الهادئة من الألوان، توحي بمفهوم تجريدي، غير أنها تقدم لنا وجهاً بالغ الإنسانية، يبدو بلا ظلال تقريباً، مقابل خلفية غارقة في الضوء، وتبدو اللوحة تعبيرية من حيث روحها، وفي البورتريهات التعبيرية يتم تجاوز الحياة الداخلية للمرأة، من أجل إظهار السحر الخارجي، الذي يتطلب وجهاً مبتسماً، وملامح تشبه الزهور.

ومن بين أعمال فان جوخ المهمة، تلك اللوحة التي رسمها لنفسه، بعد خروجه من المستشفى عام 1889 ففي هذا البورتريه نجد أن الجانب الأيمن من الوجه بالكامل، مغطى بضمادة كبيرة، تضيف جدية حزينة على المظهر الصارم للفنان، وكانت موديلاته دائماً لأشخاص بسطاء، يعيشون في محيطه القريب، كما لم تكن معاييره في اختياره الموديل الجمال الخارجي، بل إنسانية الموديل فقط.

ورسم فان جوخ لوحة لطبيبه الخاص، تنطوي على بحث عميق في الإنسان، حيث تتجلى فيها أبرز خصائص فنه، وفي مقارنة بينها وبين آخر بورتريه شخصي رسمه لنفسه عام 1889 نجد مشتركات منها: سبر أغوار الملامح في أدق تعبيراتها عن البلاء والكرب، والإبداع الحر لبنية تعبيرية من الخطوط والألوان والمساحات، تنقل الإحساس الداخلي للشخص.

مضامين تعبيرية

من أقدم المحاولات في إطار رسم البورتريه، ما عرف بوجوه الفيوم، وهي صور، عثر عليها في إحدى المقابر، بمنطقة الفيوم، وهي وجوه مرسومة بألوان شمعية كثيفة، مثبتة بالحرارة، حيث كان الشمع يغلى في الماء، مع قليل من ملح النطرون، وكانت ملامح الوجه والرقبة تلون بفرشاة خفيفة، وتكشف أقدم الرسوم عن بساطة في أسلوب تصفيف الشعر، وحدة في القسمات، تماماً كما هي الحال في التماثيل النصفية الحجرية.

وكما يقول الفنان أحمد نوار، فإن اللون في تلك الوجوه، ليس له مضمون تشكيلي فحسب، بل هو فيها له مضامين تعبيرية، فقد وضعه الفنان على سطح اللوحة، عبر ضربات رقيقة بالفرشاة، معبراً عن انطباعات متناقضة، تجمع بين الرقة والقوة واللطف والحدة، فالمشاهد لوجوه الفيوم، سرعان ما تستدعي ذاكرته لوحات للفنان رينوار، قدم من خلالها وجوهاً لفتيات من الطبقة الوسطى للمجتمع الفرنسي في القرن الماضي، وقد عبر من خلالها عن الانطباعات المتباينة، في جو مفعم بالرقة والرومانسية.

كذلك فإن «وجوه الفيوم» يجمعها تعبير آخر حرص الفنان على إظهاره، من منطلق عقائدي، فالوجوه التي تطل علينا من هذه اللوحات، تنظر إلى نقطة لا نهاية لها، خلف المشاهد، كأنها تعبر عن دهشتها مما تراه، بعد بحثها، لكن هؤلاء الأشخاص قادرون على جعل من يقف ليتأملها، يشعر بالحياة والغموض في آن واحد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"