الاعتزاز بالوطن لا يتعارض مع الانتماء إلى الإسلام

القرآن دستورنا
13:21 مساء
قراءة 6 دقائق

من مظاهر العظمة في القرآن الكريم وسمو تشريعاته غرس محبة الأوطان في نفوس أتباعه ليزداد تمسكهم بترابها، وحرصهم على الارتقاء بها، والتفاني في خدمتها، وتقديم مصلحتها العامة على مصالحهم الشخصية .

فلا يوجد كتاب سماوي غرس حب الوطن في نفوس أتباعه كما فعل القرآن، ولا يوجد نظام بشري فرض على الإنسان أن يعمل ويكدح ويخلص ويضحي بحياته كلها دفاعاً عن وطنه كما فعلت شريعة الإسلام التي تستمد تعاليمها وأحكامها من الكتاب الخالد دستور المسلمين العظيم .

المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، يكشف لنا هذا الجانب المهم في فلسفة القرآن وتشريعاته ويوضح علاقة القرآن بالوطنية فيقول: القرآن الكريم يربط المسلم بداره، ويفرض عليه أن يخرج للدفاع عن وطنه، وأن يرفع راية الجهاد ضد كل من تسول له نفسه العدوان على أرض الإسلام واستنزاف خيرات المسلمين وإهدار حقوقهم، وهذا واضح من تعريفات علماء المسلمين لمعنى الجهاد، وهو أنه الخروج للدفاع عن الدين والوطن والكرامة .

من دواعي الجهاد

فالعدوان على الوطن وطرد أهله (المسلمين) منه هو في فلسفتنا ومنظومتنا التشريعية الإسلامية أحد الأسباب الدافعة إلى الجهاد، فالله سبحانه وتعالى يقول: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، فوفقاً لهذا النص القرآني فإن طرد المسلمين من أوطانهم من الأمور العظيمة التي تستوجب إعلان الجهاد دفاعاً عن الأوطان كما أن العدوان على الدين يستوجب الجهاد والتضحية، ومن هذا النص القرآني تتضح لنا قيمة الوطن وأهمية الدفاع عنه والحفاظ على استقلاله، حيث قرنه الخالق المشرع بالدفاع عن الدين، أي أن العدوان على الدين والوطن من الأمور الخطرة التي تفرض على المسلم أن يجاهد بنفسه وماله ولو سقط في ساحة المواجهة وهو يدافع عن دينه ووطنه كان من الشهداء الذين قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، أي أن الذين يدافعون عن دينهم وأوطانهم شهداء أبرار وقد عوضهم الله عن الحياة الدنيا الزائلة الفانية بحياة أفضل في جنة الخلد، وسوف يفرحون بما أنعم الله به عليهم من نعم لا مثيل لها في الدنيا .

وهكذا يقدم القرآن الحوافز المجزية للذين يدافعون عن دينهم وأوطانهم ويدفعهم دفعاً إلى التضحية بكل ما يملكون لكي يظل دينهم مرفوع الراية تصل هدايته للناس، وتظل أوطانهم محررة مستقلة لا يدنسها المعتدون الآثمون .

دنيا الإسلام

والانتماء إلى الوطن الذي غرسه في نفوسنا القرآن الكريم لا يصطدم أبداً كما يقول د .عمارة مع الانتماء الأكبر الذي غرسه فينا القرآن الكريم، وهو الانتماء إلى الإسلام، حيث يقول: لا تناقض في ظل تعاليم وأحكام شريعتنا الإسلامية بين حب الوطن والانتماء إليه والحرص عليه والتصدي للدفاع عنه وبين الانتماء الأول والأكبر والأساس بالنسبة إلى المسلم وهو الانتماء إلى الإسلام، ويقول: لا تخيير للمسلم بين الانتماء للدين والانتماء للوطن، حيث لا يوجد تعارض أو تناقض أو تضاد بين الاثنين، فالإسلام كمنهاج شامل لمملكة السماء وعالم الغيب وللعمران البشري وسياسة وتدبير عالم الشهادة، لا تتأتى إقامته كدين إلا في واقع ووطن ومكان وجغرافيا، وهذا الواقع والوطن والمكان والجغرافيا لن يكون إسلامياً إلا إذا أصبح الانتماء الوطني فيه بعداً من أبعاد الانتماء الإسلامي العام، فعبقرية المكان في المحيط الإسلامي هي واحدة من تجليات الإسلام الذي لا تكتمل إقامته بغير الوطن والمكان والجغرافيا .

ومن هنا تأتي ضرورة الوطن لإقامة دنيا الإسلام وعمرانه، وتأتي ضرورة الدين ليكون الوطن إسلامياً وتتحقق إسلامية عمرانه، أي ضرورة أن يكون الانتماء الوطني درجة من درجات سلم انتماء المسلم إلى الإسلام كجامع أكبر وأول لأبعاد ودوائر الانتماء، فالإسلام هو الذي يستدعي ويتطلب وجود الوطن والوطنية، لأنه لا تكتمل إقامته من دون وطن يتجسد فيه، فليس هو بالدين الذي تكتمل إقامته بالخلاص الفردي، كما أن خلاص المسلم وتقدمه لا يمكن أن يكون إلا إسلامياً .

معيار جاهلي مرفوض

هذه الحقيقة القرآنية كما يؤكد الدكتور عمارة هي التي أعطت قيمة لدين الإسلام في حدود الوطن، فعلى حين وقفت مذاهب وفلسفات عند حدود العرق فإن القرآن بفلسفته المثالية وبتشريعاته وآدابه وتوجيهاته الحضارية رفض هذا المعيار الجاهلي، لأن رب الناس واحد، وأباهم واحد، والتقوى هي معيار التفاضل بين الناس .

يقول الدكتور عمارة: في الوقت الذي وقفت فيه مذاهب وفلسفات في رسم حدود الوطن عند اللغة وحدها فإن القرآن قد جعل العربية لسان الدين إنا أنزلناه قرآناً عربياً، وسبيل الدولة والعقل المسلم لفقه الدين والاجتهاد فيه، حيث لا يوجد تناقض بين آفاق الدين ونطاق اللغة العربية على وجه الخصوص، وعلى حين اكتفت مذاهب وفلسفات في تحديد حدود الوطن بجغرافيا الإقليم فإن الإسلام الذي يعتمد على القرآن كمصدر أساس للتشريع قد سلك الجغرافيا والأقاليم في الحفاظ على ديار الإسلام ووسع من دائرتها لتشمل كل الديار التي وحدتها العقيدة والشريعة والأمة والحضارة مع التمايز في القبائل والشعوب والأوطان والأقوام، ولذلك اجتمعت في ظل منظومة القرآن كل مفاهيم العالمية والأممية مع الوطنيات والقوميات، دونما تناقض أو تعارض أو عداء . يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فالقرآن الذي أعلى من قيمة الوطنية ودفع المسلم إلى الاعتزاز بوطنه والدفاع عنه والتضحية بالنفس والمال في سبيله، لم يجد حب هذا الوطن عقبة في طريق التواصل والتعاون مع كل أمم وشعوب الأرض كما هو واضح من هذا النص القرآني .

هذه الحقيقة في علاقة القرآن بالوطنية هي التي جعلت للوطن والوطنية ذلك المقام العالي في ظل الانتماء الإسلامي الذي لا يقف عند حدود وطن بعينه، ولا يتقيد بوطنية من الوطنيات دون سواها .

قرين الحياة

إن القرآن الكريم يتحدث عن حب الإنسان لوطنه كمعادل وقرين لحب هذا الإنسان للحياة، ولذلك فإن الإخراج من الديار مساو للقتل الذي يخرج الإنسان من عداد الأحياء، ومن بنود المواثيق التي أخذها الله على بعض الأمم نتعلم أن الإخراج من الديار، والحرمان من الوطن، هو معادل لسفك الدماء والإخراج من الحياة، يقول الحق سبحانه: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون، ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون .

ولذلك جعل القرآن الكريم استقلال الوطن الذي هو ثمرة لوطنية أهله وبسالتهم في الدفاع عنه، جعل ذلك حياة لأهل هذا الوطن، بينما عبر عن الذين فرطوا في الوطنية، ومن ثم في استقلال وطنهم بأنهم أموات .

وكما جعل القرآن الوطنية التي تحفظ استقلال الوطن قرين الحياة ومعادلها، جعل كذلك هذه الوطنية قرين حرية الدعوة إلى الدين، فكان الجهاد القتالي في الإسلام رداً ودفعاً لعدوان المعتدين على حرية الدعوة بالفتنة في الدين، وعلى عدوان المعتدين الذي يخرج الناس من الأوطان ويقتلعهم من الديار .

وفي هذين السببين العدوان على الدين والعدوان على الوطن انحصرت مشروعية فريضة الجهاد القتالي في الإسلام، وعلى هذه الحقيقة تشهد آيات القرآن الكريم التي شرعت فريضة القتال لرد العدوان عن الدين، وعن الوطن .

الارتقاء بالوطن

أستاذ الشريعة الإسلامية بالجامعة الأزهرية، عضو مجمع البحوث بالأزهر، د .عبدالله النجار، يؤكد أن إعلاء القرآن قيمة الوطنية ليس تعصباً للأوطان ولا إهداراً للقيم العلمية والحضارية التي ينبغي أن يتمسك بها الإنسان المسلم ويحرص عليها، بل في ذلك اعتزاز بالوطن وحرص على تنميته والارتقاء به والدفاع عنه، وهي مقومات حضارية لا يجوز لأي شعب أن يتخلى عنها .

ويؤكد د .النجار أن القرآن نظم من خلال تشريعاته علاقة الإنسان بوطنه ورسم له كيفية التعامل الراقي مع كل ما يحيط به من جمادات وحيوانات وموارد طبيعية وعناصر بيئية فضلاً عن التعامل المتحضر مع الإنسان الذي يشاركه في الوطن ويفد عليه زائراً أو عاملاً أو صانعاً لتنميته .

فلا يجوز للإنسان شرعاً أن يخون وطنه أو يلحق به أي ضرر مادي أو معنوي أو يقدم أي مساعدة لأعدائه والمتربصين به، وكل ذلك يصب في خانة حب الوطن والانتماء إليه .

وينتهي أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر إلى أن حب الوطن في نظر القرآن ليس مجرد شعور إنساني يقتصر على ميول القلب من دون أن يتخذ شكل السلوك البشري المنضبط الذي يحاسب الإنسان بموجب الخطاب المنظم له، فيثاب على الوفاء به، ويعاقب على التقصير في واجبه، بل إن حب الوطن في الإسلام وكما غرسه فينا القرآن الكريم وتوجيهات رسولنا الكريم يتفوق على حب النفس والمال، ويتجاوز حب الأهل والولد، فكل هذه الأمور رغم مكانتها في نفس الإنسان تأتي بعد حب الوطن، ولذلك ترى المسلمين المرتبطين دينياً ووجدانياً بأوطانهم يتساقطون في ساحات المواجهة دفاعاً عن هذا الوطن ولا يتراجعون أو يتقاعسون أو يتخاذلون عن نصرته والدفاع عنه والتضحية من أجله .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"