سحب سوداء في العلاقات الروسية - البريطانية

03:57 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نورهان الشيخ

ألقت ما باتت تعرف بقضية سكريبال، بظلال واضحة من التوتر على العلاقات الروسية- البريطانية، وهي القضية التي تفجرت في أعقاب محاولة اغتيال ضابط جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية السابق والجاسوس البريطاني، سيرجي سكريبال، وابنته، من خلال هجوم بغاز أعصاب يوم 4 مارس/ آذار، في مدينة سالزبري البريطانية.
سارعت رئيسة الوزراء البريطانية إلى اتهام روسيا، والرئيس بوتين شخصياً، بالوقوف وراء الحادث، أعقب ذلك إعلانها مجموعة من الإجراءات «العقابية» في مواجهة روسيا، ردت روسيا بإجراءات جوابية عليها انتهت بطرد 23 دبلوماسياً من كلا الجانبين، في سابقة أعادت ذكريات المواجهة في إطار الحرب الباردة، خاصة أن لندن دعت لاجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، ونجحت في جذب التأييد الأوروبي والأطلسي لموقفها، حيث أكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبيرج، يوم 14 مارس/ آذار، دعم الحلف الكامل للسياسة البريطانية تجاه روسيا، وأعلن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة «تضامناً مطلقاً» مع بريطانيا.
وقد انطلق الموقف البريطاني من أن موسكو خرقت التزاماتها باتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية، واستخدمت غاز الأعصاب «نوفيتشوك» الذي يرجع للعهد السوفييتي في محاولة الاغتيال التي تعتبر أول استخدام لمثل هذا السلاح على أراض أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. وأكد وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» يوم 18 مارس، امتلاك لندن «دليلاً بالفعل على أن روسيا لم تكن على مدى السنوات العشر الماضية تبحث فقط في استخدام غاز الأعصاب في الاغتيالات، بل كانت أيضاً تنتج غاز نوفيتشوك وتخزنه».
في المقابل، نفت روسيا تماماً ذلك، واستندت في موقفها إلى عدة حجج. أولاها، أن هناك درجة عالية من التسييس للأزمة، وأن لندن تتعامل مع الواقعة من منظور سياسي، وليس جنائياً، وأنها لم تقدم أي دليل قاطع على تورط روسيا في محاولة الاغتيال، وكان ذلك محل نقد حتى في الداخل البريطاني، حيث شدد زعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين على ضرورة أن يكون الرد البريطاني مبنياً على «أدلة دامغة»، وأن يكون مبنياً على القانون والاتفاقات الدولية وحقوق الإنسان. كما أن التحقيق الجنائي في الواقعة لم يقدم أي نتائج بشأن المكان الذي صنعت فيه المادة، أو استقدمت منه، أو هوية المجرمين الذين فروا هاربين. الأمر الذي يبدو غريباً، فكيف لشخص أن يلقي الغاز الكيماوي ويفر هارباً. فضلاً عن رفض لندن إشراك روسيا في التحقيقات.
ثانيتها، نفت روسيا إنتاج مادة «نوفيتشوك» الكيماوية التي تدعي بريطانيا استخدامها في الهجوم، على الإطلاق، أو حتى إجراء تجارب، أو أبحاث حولها، لا إبان الاتحاد السوفييتي، أو في روسيا الاتحادية، مؤكدة أن أي عميل روسي محترف، لن يستخدم أي مادة سامة ذات أصل روسي وتحمل اسماً روسياً في الاغتيالات، وأن البلدان التي تنتج غاز «نوفيتشوك» هي بريطانيا وسلوفاكيا والتشيك والسويد والولايات المتحدة. وأن هذه المادة كان يتم تجريبها في مختبر عسكري تابع لوزارة الدفاع البريطانية في بورتون داون، على بعد نحو 12 كيلومتراً من موقع الحادثة في سالزبري حيث يتم تخزين الأسلحة الكيميائية وإتلافها منذ الحرب العالمية الثانية.
كما أن روسيا عضو في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وانتهت من تدمير كل أسلحتها الكيماوية عام 2017 تحت إشراف المنظمة.
ثالثتها، عدم وجود أي دافع لدى روسيا لقتل سكريبال لأنه، ومنذ فترة بعيدة، بات بحكم المنتهي بالنسبة لموسكو، فقد قضى سكريبال في السجون الروسية ست سنوات (2004- 2010)، كما أنه مقيم في بريطانيا منذ العفو عنه في إطار صفقة لتبادل الجواسيس عام 2010، ولو أرادت روسيا التخلص منه لما انتظرت كل هذه الفترة، خاصة أنه تقاعد، ولم يعد له نشاط يذكر منذ عام 2016، فضلاً عن أنه لا يمكن لأي طرف روسي أن يقدم على تنفيذ عملية من هذا النوع قبيل الانتخابات الرئاسية والمونديال.
وفي المقابل، هناك مصالح بريطانية مباشرة في افتعال هذه الأزمة مع روسيا، وفي هذا التوقيت بالذات، أبرزها تشويه صورة الرئيس فلاديمير بوتين، ومحاولة حلحلة قاعدة مؤيديه قبيل الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 18 مارس. وحرمان روسيا من عوائد كبيرة من إقبال الجماهير الأوروبية على حضور كأس العالم في روسيا، فوفق للسفير الروسي في بريطانيا هناك 30 ألف مشجع بريطاني حجزوا بالفعل للتوجه لروسيا لمتابعة فعاليات كأس العالم. يؤكد ذلك أن من بين الإجراءات التي أعلنتها بريطانيا عدم مشاركة أي من أفراد العائلة المالكة، أو الوزراء للمونديال في روسيا، وحث المواطنين لعدم التوجه لروسيا. يضاف إلى ذلك دعم صورة رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، التي تعاني تراجعاً في شعبيتها، وتتهم بالضعف، فأرادت أن تقدم نفسها باعتبارها مارجريت تاتشر الجديدة، وأن تحشد التأييد الداخلي والأوروبي لها في مواجهة روسيا، وصرف الانتباه عن العديد من الأسئلة التي توجه إليها في البرلمان وخارجه، حول أداء الحكومة في العديد من الملفات. وربما تستهدف لندن أيضاً الأموال الروسية الهائلة التي تدفقت عليها منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 حتى أطلق عليه البعض «لندنجراد»، ويوجد نحو 300 ألف من الجالية الروسية أغلبهم من الأثرياء ورجال الأعمال يقومون بنشاطات مالية على الأراضي البريطانية، وحث بعض المشرعين رئيسة الوزراء البريطانية على تجميد الأصول الخاصة لكبار أفراد الدائرة المقربة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في ضوء ما تقدم، فإن القضية تظل سياسية تحكمها المصالح والتوازنات، وليست جنائية، وتعيد للذاكرة قضية الأسلحة النووية العراقية التي تم افتعالها لتبرير غزو العراق. ويعني ذلك أن التوتر بين البلدين سيستمر وستتسع دوائره، خاصة بعد أن قامت تيريزا ماي بطرح القضية أمام قمة الاتحاد الأوروبي يوم الخميس 22 مارس. ومن دون انتظار لنتائج التحقيق الذي تجريه منظمة حظر الأسلحة الكيماوية الذي يستغرق أسبوعين، للتعرف إلى الغاز المستخدم، أكد البيان الصادر عن القمة دعم الاتحاد الأوروبي لموقف بريطانيا، وموافقته على تقييم الجهات البريطانية للحادث. وقام الاتحاد الأوروبي باستدعاء سفيره في موسكو، وأكدت كل من المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي وحدة الصف الأوروبي. ورغم أن القمة لم تنته إلى إجراءات جماعية في مواجهة روسيا، فإنها تركت لكل دولة أوروبية منفردة تحديد الإجراءات التي تود اتخاذها في مواجهة روسيا بدءاً من يوم 26 مارس، والتي قد تتضمن طرد دبلوماسيين روس أو استدعاء دبلوماسييهم. الأمر الذي ينبئ بتصعيد متواصل ليس في العلاقات الروسية- البريطانية فقط، وإنما الروسية- الأوروبية والغربية بصفة عامة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"