الفن والحياة

04:45 صباحا
قراءة دقيقتين

علاء الدين محمود

تناول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه جدلية «الفن والحقيقة»، وأعلن الانحياز إلى القيم الجمالية التي تطرحها الفنون بشكل عام، وقد وجدت فكرته تلك جدلاً ونقداً كبيرين، ولا شك أنه كان يغوص في تلك الفجوة بين الواقع المتحقق فعلياً، وذلك الذي يطلبه الإنسان، وكأنه يشير إلى أن الكثير من القيم التي يتغنى بها المرء لا توجد فعلياً في الواقع، أو أن البشر في صراعهم اليومي مع الحياة قد تخلوا عن تلك القيم، واستعاضوا بالفن ليعبر عن عالم افتراضي يجمّل وجه الحياة العابس، ما دفع نيتشه إلى تمجيد الفن كمهرب، بعد أن وجد أن الحياة لا تطاق وتحتاج بالفعل إلى ما يجملها، وذلك ما عبر عنه كذلك بقوله: «لدينا الفن لكي لا نموت من الحقيقة».
والواقع أن هذه المسألة خلقت نوعاً من الاصطفاف، وشكلت تيارات ومدارس أدبية لكل منها نظرتها في الفن والحياة، ولكن في ما يبدو أن هذه العلاقة ليست بتلك الحدة والتنازع، بل هي مسألة جدلية، فالحياة هي المنبع الأساسي للفنون، والمبدع مهما حلَّق بخياله لينتج الشعر والرواية والمسرح والتشكيل..الخ، فإن الواقع هو المادة الأساسية التي ينسج من قماشتها تفاصيل إبداعه، وهكذا تأتي كثير من الأفكار الخيالية التي صنعها المبدع لكي تعبر، أو تعيد صياغة الحياة بالشكل الذي يريده ويتمناه، فهو نوع من تأويل الواقع على نحو افتراضي وجمالي، وبقدر ما أن الفن قد عمل بالفعل على تجميل الحياة، فهو قد فعل ذلك بالانتصار للقيم النبيلة الرفيعة، فقد انحاز على الدوام للخير والمروءة والشجاعة والحكمة والإيثار والنبل والكرم، وقد فعل نيتشه نفسه ذلك عندما نادى بالإنسان القوي «السوبر».
وبالمقابل وقف الفن ضد الشر، وتحتشد الأعمال الأدبية والفنية المختلفة، بشخوص تمثل جانب الشر وترمز له مثل مصاصي الدماء، الذين يرمزون للفساد والأنانية والطمع، حيث عمل الفن على تعرية وكشف حقيقة أولئك الذين يقبحون الحياة، والطفيليين الذين يقتاتون على تعب البشر وكدهم، فالأدب بذلك كان ينشد قيماً إنسانية فاضلة من أجل أن تسود في الواقع، وهذا الخير الذي ينشده الفن يوجد في الحياة نفسها، فهو ليس مختلقاً أو خيالياً، لكنه يختبئ بعيداً ويتوارى بسبب أطماع الناس، وبفعل سيادة الأفكار الزائفة التي تعلي من الشر، ومهمة الفن هي كشف ذلك الزيف، وهذا ما يفعله المبدعون في أعمالهم عندما يطلقون العنان لخيالهم من أجل أن يصنعوا نصوصاً نابضة بالحياة، تنتصر للحب والجمال وتسهم في ذات الوقت في فهم الواقع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"