«الإليزيه»..أرباح الخارج وأضرار الداخل

03:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
سجلت شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المئة يوم الأولى من الحكم انخفاضاً خطيراً يتعدى الانخفاض الذي سجله سلفه فرانسوا هولاند في المرحلة نفسها، وهولاند مؤشر سييء للغاية في ثقافة استطلاع الرأي العام حول نمط الحكم.
كان ماكرون في الغالب الأعم يتوقع مثل هذا الاحتمال، عندما صرح مبكراً من أنه لن يعتمد القياسات التي كانت سائدة في عهد الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه، أي هولاند وساركوزي وشيراك، وأن الأهم بالنسبة إليه هو الإجراءات الإصلاحية التي يتخذها من أجل إعادة ثقة المواطنين بحكومتهم.
يمكن اعتبار ماكرون المسؤول الأول والوحيد عن الهبوط الحاد في استطلاعات الرأي، فقد تصرف في تشكيل حكومته، وفي ترتيب أغلبيته النيابية منفرداً، فلا حزبه الحديث العهد يستطيع اعتراضه، ولا أغلبيته البرلمانية الحديثة بمعظم عناصرها، والمشكلة من أشخاص لم يسبق لهم إطلاقاً أن دخلوا حلبة البرلمان.
ما تقدم يطرح سؤالاً حول ما جرى ولماذا؟
أمضى ماكرون الأيام المئة الأولى في ولايته سعيداً بإطلالاته الخارجية مستفيداً من انشغال دونالد ترامب وانخراطه في معارك داخلية في بلاده، ومن انشغال بريطانيا في ترتيبات الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانشغال ألمانيا بانتخاباتها الجديدة، حيث ترشح ميركل نفسها لولاية رابعة قد تفوز فيها في حين تبدو إيطاليا منغلقة على نفسها بسبب أزماتها؛ فيما ترزح إسبانيا تحت أزمة اقتصادية غير بعيدة عن نظيرتها اليونانية.
الساحة الدولية التي بدت في الشهور الماضية فارغة تقريباً، جعلت ماكرون لاعباً جديداً في مواجهة الروس، والأمريكيين وأزمات الشرق الأوسط؛ فأتاح في ليبيا لقاء خصمين لا يلتقيان، وبذل مساعي لحل الأزمة في الخليج، وأعاد الوصل مع روسيا، وأطلق تصريحات مشجعة لانطلاقة جديدة في الاتحاد الأوروبي، وخرج من الطريق المسدود الذي ارتفع في عهد سلفه هولاند، وباختصار شديد يمكن القول إن الرجل كان بارعاً في طرح نفسه على الساحة الدولية، وهو الذي كان مجهولاً قبل شهور قليلة وأعاد الثقة ببلاده ومنح مواطنيه شعورا بالفخر.
في المقابل ارتكب ماكرون أخطاء في سياسته الداخلية بدا بعضها وكأنها ناجمة عن سذاجة أو عن نقص في الخبرة، من ذلك ما أعلنه خلال حملته الانتخابية من أنه يريد لبلاده جيشاً قوياً يضطلع بمهام عظيمة تفرضها ظروف دولية ضاغطة، فإذا به يتخذ إجراء في الاتجاه المعاكس، تمثل بتخفيض ميزانية الجيش بمقدار 800 مليون يورو، الأمر الذي أثار غضب رئيس الأركان فادلى بتصريح حذر فيه من خطورة إجراء من هذا النوع على أداء المؤسسة العسكرية الفرنسية، فأقال رئيس أركانه المحبوب والمقدر من العسكريين ليطوي السجال دون أن يطوي أسبابه.
ويمكن التطرق إلى مثال آخر متعلق بالعجز في الميزان التجاري، حيث سجلت ألمانيا فائضاً في شهر يوليو/ تموز الماضي تجاوز العشرين ملياراً، بينما سجلت فرنسا عجزاً بقيمة 4 مليارات، وهذا لا يوافق التوقعات المتفائلة التي ترافقت مع انتخابه.
في هذا الوقت ما انفكت الفضائح المالية تضرب حكومته وحلفاءه في تيار الوسط، الأمر الذي دفعه إلى إقالتهم حتى لا يتراجع عن قياسه الأخلاقي الصارم الذي طرحه وسيلة لشفافية الحكم وخلوه من الفساد والفاسدين.
وكان ما سبق من أداء سيىء لا يكفي فإذا بحكومته تتخذ إجراءات ضريبية، بعثت الخوف والقلق في صفوف ذوي الدخل المحدود، خاصة المتقاعدين، ما أدى إلى اتساع الإحباط الشعبي من الحكومة، ولولا العطلة الصيفية لربما عبر الناس عن عدم رضاهم في الشارع.
الثابت أن الإحباط لا ينحصر فقط في الإجراءات السيئة التي اتخذت فهو يمتد إلى تلك التي لم تتخذ والموعودة في الأيام والأسابيع القادمة، ذلك أن المشروع الأبرز الذي انتخب ماكرون على أساسه يتعلق بتغيير قانون العمل، وبالتالي السماح لأرباب العمل بصرف مستخدميهم دون عقبات وعقوبات قاسية كتلك التي يرى أنها تتضمنه في القانون الحالي، والواضح أن تغيير المرسوم سيلحق ضرراً كبيراً بالعمال والموظفين، إذ يحرمهم من ضمانات موثوقة ضد الصرف التعسفي، وبالتالي سيثير النقابات العمالية التي تعد بالنزول إلى الشارع وبهبوط شعبية الرئيس إلى الحضيض.
يجدر التنبيه في هذا المجال إلى أن انخفاض شعبية ماكرون، لن تترجم بتغيير في حكومته أو بتقييد سياسته المستقبلية لأنه يتمتع بكل بساطة بأغلبية برلمانية مريحة ويتيح له دستور الجمهورية الخامسة مواصلة الحكم إلى أجله القانوني.
في هذا الوقت قد تستفيد المعارضة البرلمانية من انخفاض شعبية الرئيس واتساع أخطائه لكنها ضعيفة وغير موحدة، فمن جهة نجد اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن التي تحتفظ بتأثير محدود في البرلمان لعدم تمكنها من تشكيل مجموعة برلمانية؛ في حين يدير المعارض الراديكالي اليساري جان لوك ميلونشون رئيس حزب «فرنسا الأبية» منبر المعارضة الأكبر بواسطة مجموعة برلمانية جدية، لكنها صغيرة الحجم، يضاف إلى ذلك معارضة قسم من الديغوليين والاشتراكيين، لكن حاصل جمع هؤلاء، افتراضاً، لن يؤدي إلى نزع الثقة عن الحكومة، لكنه سينقل صوتهم إلى الشارع الذي سيكون تحركه صاخباً إلى أبعد الحدود.
لا يعرف أحد بعد كيف سيتصرف ماكرون في مواجهة الاستحقاقات القادمة، هل يعود إلى الوراء فيطالب بحساب حول وعوده الانتخابية، أم يواصل غير مبال إلى الأمام فيواجه الغضب الشعبي. وفي وجهي الصورة لا يبدو أن الأيام والأسابيع المقبلة تحمل أنباء سعيدة للسيد الرئيس.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"