الاستثمار في المدن (2 - 2)

كيف يؤثر التطور المدني في أسواق العمل في خصائصها، وتوزيعها، ونسبها، علماً أن الأوضاع تختلف بين دولة وأخرى، بل بين مدينة وأخرى، في الدولة نفسها؟
أولاً: لا شك في أن التطور المدني يؤثر في التخصص الوظيفي، إذ هنالك مهمات لا يمكن أن تكون في الريف وبالتالي لا بد من المدن الكبيرة لتأمينها. وتكون وظائف الخدمات موجودة في المدن في أكثريتها الساحقة، بما فيها وظائف التسويق الصناعي والزراعي. ووجود المدن الكبيرة، وبسبب التواصل الإنساني والعلمي والخبراتي يسمح برفع إنتاجية العامل والموظف، وهذا مهم جداً للتنمية. ووجود المدن الكبيرة يؤثر في التوزع السكاني لمصلحتها، بالرغم من أن العيش في الريف إيجابي جداً للصحة والأعصاب، والراحة. ولا شك في أن أكثرية السكان تفضل العيش اليوم في المدن لسهولة الحياة بالرغم من السلبيات البيئية، والسكنية، والمعيشية المعروفة.
ثانياً: ارتفاع الإنتاجية في المدن نتيجة التخصص والمسافات يؤثر إيجاباً في مستوى الفقر، كما في مؤشرات التنمية الإنسانية والاجتماعية. وتؤثر المدن إيجاباً في تكلفة التبادل التجاري بسبب المسافات وقرب العيش المشترك، ووجود أسواق كبيرة فاعلة ترتكز على تكنولوجيا حديثة تؤمّن تناقل المعلومات والسلع، كما الخدمات. وتكلفة التبادل التجاري تكون 4 أو 5 مرات أكثر في الدول النامية مقارنة بالولايات المتحدة مثلاًً، بسبب تطور المؤسسات والقوانين والتكنولوجيا ووسائل النقل، وغيرها.
ثالثاً: لا شك في أن المدن الكبيرة تعاني العدد السكاني الكبير، وبالتالي زحمة السير الخانقة التي تؤثر في نوعية الحياة، وتهدر الوقت الكثير. وتفضيل العيش في المدن لا يقتصر على مواطني الدولة فقط، بل على المهاجرين إليها الذين يلحقون أسواق العمل المتوافرة بدورها في المدن الكبيرة. ولا في شك أن التمييز بين العامل والموظف مهم جداً في انتقاء مراكز العمل والسكن، إذ إن الخصائص والمبررات والأسباب تكون مختلفة جداً.
رابعاً: لأن الإنتاجية ترتفع في المدن مقارنة بالريف، نرى أن الدول التي تتكل أكثر على ريفها في الإنتاج والاستهلاك تكون عموماً أفقر. ولا يمكن القول إن التطور المدني يرفع بالضرورة من مستوى النمو، بل هنالك أحياناً تطور مدني من دون نمو، وهذا سيئ، إذ يجلب كل مساوئ المدن من دون تحقيق البحبوحة المرجوة. والتطور المدني من دون سياسات مناسبة تعالج المساوئ البيئية والسكانية يمكن أن يؤثر سلباً في الإنتاج الصناعي والخدماتي.
ومن مزايا سوق الحرير الصينية الجديدة أنها ستستثمر كثيراً في المدن وفي البنية التحتية وتخلق شبكة تحالفات قوية. وإن إنشاء جسر واحد في دولة آسيوية نامية سيكون له تأثير كبير في المدن المجاورة، وفي تكلفة ووقت النقل، وتكلفة الشحن، ويدفع السكان إلى السكن حوله. ويمكن تخيل تأثير إنشاء عشرات الطرق والجسور والأنفاق في دول عدة، وقارات مختلفة، ليس فقط في النمو، وإنما خاصة في التنمية. ويحاول ترامب اليوم الضغط على الصين تجارياً، الا أن يهمل معالجة المصالح الطويلة الأمد للولايات التحدة، وهذا خاطئ تجاه الاقتصاد والشعب.