الثروة الطبيعية والنمو

01:19 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

كيف يمكن إنقاذ الوضع في الدول الغنية طبيعياً والفقيرة معيشياً وشعبياً، هنالك من يقترح توزيع الإيرادات النفطية وغيرها مباشرة على الشعب، أي تقسيمها على عدد المواطنين ومنحهم إياها مباشرة.. فكرة جيدة لكن من يقوم بذلك؟
حديث الساعة عالمياً يدور اليوم حول أهمية الثروات الطبيعية من معدنية وزراعية، أي حول كيفية تأمين استمرارية العرض ومدى تأثيره على الأسعار. بما أن الدول النامية والناشئة تعتمد بشكل أساسي على ثروتها الطبيعية وقيمتها، تدخل أسواق الغنى الطبيعي ضمن سياسات التنمية والتطور بما فيها الأوضاع المعيشية العامة. تكمن أهمية الثروة الطبيعية اليوم في زمن العقوبات المنتشرة شمالاً ويميناً ليس فقط على فنزويلا وإيران وإنما على روسيا وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها من الدول والمنظمات. التحدي العالمي هو كيفية الحفاظ على أسعار مقبولة عندما يتحدد العرض قسراً عبر العقوبات. هنالك موضوع أساسي آخر هو تأثير الثروة الطبيعية على النمو.
إذا تكلمنا عن النفط تحديداً، نرى أن الدول النفطية تنمو بسرعة عندما تكون أسعار النفط مرتفعة. ارتفعت نسب الادخار إلى 38% من الناتج في الدول المصدرة لها .
هل أن تأثير أسعار المواد الأولية وفي طليعتها النفط يقتصر فقط على النمو أو يمتد إلى أمور أخرى يمكن أن تكون أكثر أهمية كالمؤسسات والقوانين؟ تشير الوقائع إلى أن الدول المعتمدة على الثروات الطبيعية تستورد الكثير وبالتالي تعاني من الضغط على الأسعار أي من التضخم الذي يصيب الفقراء أولاً والطبقات الوسطى ثانياً. بسبب ارتفاع الطلب تتحسن قيمة النقد الوطني، لكن بعض هذه الدول ومنعاً لارتفاع أسعار صرف نقدها تعتمد سياسات تثبت سعر الصرف اصطناعياً. يحصل هذا في الدول التي لا تعطي مصرفها المركزي استقلالية القرار، أو بالأحرى عندما يخضع مصرفها المركزي لسلطة الحكومة ووزارة المال تحديداً. هنا تكمن أهمية استقلالية المصرف المركزي التي تعتمدها الولايات المتحدة ومنطقة اليورو ولبنان والعديد من الدول الأخرى. لذا يحاول الرئيس ترامب اليوم دون نجاح إخضاع سلطة المصرف المركزي لإدارته عبر محاولة تعيين محازبين له في مجلس الإدارة، فشل لأن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يريدان الحفاظ على الاستقلالية المتمثلة اليوم في الإدارة الحكيمة ل«جي باول» رئيسه.
هنالك مؤشرات تقول بأن الدول الغنية طبيعياً لا تنتج سلعاً أو آليات جديدة أي لا يعتمد اقتصادها على الإبداع وهذا يعيدنا إلى موضوع الاتكالية المعروفة وغير المبررة على المدى الطويل. تنصب الجهود في تلك الدول على كيفية توزيع الثروة أو تقاسمها وليس على زيادة قيمتها أو تنويع ركائزها ومصادرها. هذا ربما يفيد على المدى القصير، إنما حكماً هو مضر على المدى البعيد. كما أن هذه الدول تعاني من تقلبات الأسعار الكبيرة وبالتالي من عدم الاستقرار في الرؤية والتخطيط المستقبلي فيما يخص النمو والاستثمارات وحتى الاستهلاك. لا شك أن الدول الغنية طبيعياً تعاني الكثير من التقلبات المادية ومن عدم قدرتها البنيوية على التنوع والتغيير.
في الأمثلة تشير الإحصائيات إلى أن دولاً كأنغولا ونيجيريا الغنيتين جداً لا تحققان نمواً كبيراً متواصلاً، بينما دول شرق آسيا على سبيل المثال طورت اقتصاداتها كما لم يحصل سابقاً في التاريخ. يشير ما سبق إلى صحة القول بأن الثروة الطبيعية تضر بسبب الاتكالية وعدم الرغبة في التجديد والإبداع والتغيير. في الناتج المحلي النيجيري، تدنى في سنة 2016 وارتفع 0,8% في 2017 وربما لم يتعد 2% في 2018. التضخم مرتفع في حدود 16% والادخار قليل أي 14% من الناتج لكن ميزان الحساب الجاري فائض قليلاً جداً. أما الموازنة فهي عاجزة في حدود 5% من الناتج مما يدعو للعجب والقلق نتيجة تفشي الهدر والفساد. المعروف أن نيجيريا رائدة فيهما منذ سنوات أو حتى عقود. الأوضاع لا تدعو للاطمئنان ولا شك أن توزع الدخل والثروة سيئان أي وجود طبقة صغيرة غنية جداً وطبقة واسعة فقيرة.
الأوضاع الأنغولية أفضل قليلاً، لأن النمو مستمر منذ سنة 2010 بمعدل 3% مع انحدار واحد في سنة 2016. نسب التضخم مرتفعة بمعدل 10% والموازنة تتأرجح بين العجز والفائض تبعاً لتطور أسعار النفط. الفائض كبير 8,7% في سنة 2011 والعجز كبير في سنة 2014 مما يشير إلى عدم الاستقرار والتقلبات وارتفاع المخاطر. كذلك الأمر بالنسبة إلى ميزان الحساب الجاري المتأرجح بالطريقة نفسها، علماً أن أوضاع الفساد أفضل قليلاً من نيجيريا. أما نسبة الدين العام من الناتج فهي في حدود 73% في 2018 وهي مرتفعة في دولة لا تتمتع فقط بغنى النفط وإنما بالعديد من الثروات الطبيعية الأخرى. لا شك أن الدول الإفريقية غير قادرة اليوم على إنتاج إدارات سياسية تحكمها بشفافية ونزاهة لأن المحاسبة غائبة والشعوب لا تطالب بالتغيير كما حصل في مناطق أخرى. هنالك دائماً استثناءات، إلا أن إفريقيا عموماً تعاني إداراتها.
كي لا نحصر الموضوع في إفريقيا وحدها، نشير إلى أن روسيا تعاني المشكلة نفسها، وهي الغنية بالنفط وغيره وتعتبر دولة رائدة في ميادين عدة منها الإنتاج الأمني والعسكري. تعرضها لعقوبات أمريكية قاسية نتيجة العلاقات مع أوكرانيا لم يضرها كثيراً لكنه يؤثر فيها حكماً، عبر نسب نمو سلبية في سنتي 2015 و 2016 ونسب ضعيفة إيجابية فيما بعد. هنالك صادرات روسية كبيرة في المواد الغذائية والأسلحة تسبب فائضاً في ميزان الحساب الجاري، مما يجعل الدولة تتمتع باحتياطي نقدي كبير يقارب 500 مليار دولار في سنة 2018 أو 17 شهراً من الواردات وهي نسب صحية؛ بل مرتفعة. لا يمكن وضع روسيا في خانة الدول الإفريقية نفسها إنما يبقى اقتصادها معتمداً على المواد الأولية بشكل أساسي بالإضافة إلى أسواق الأسلحة التي تعتمد بدورها على وجود خلافات كبيرة في جميع مناطق العالم بما فيها منطقتنا.
كيف يمكن إنقاذ الوضع في الدول الغنية طبيعياً والفقيرة معيشياً وشعبياً. هنالك من يقترح توزيع الإيرادات النفطية وغيرها مباشرة على الشعب، أي تقسيمها على عدد المواطنين وإعطاؤهم إياها مباشرة. فكرة جيدة لكن من يقوم بذلك؟ الحكومة لا، إذ هي مصدر المشكلة . جهاز دولي؟ من هو ومن أين نأتي به؟ الفكرة نظرياً جيدة ويجب درسها و من الظلم جعل أكثرية شعبية في دول غنية تبقى فقيرة عندما تملك ثروات كبيرة يحسدها العالم عليها. الأضواء مسلطة اليوم على كل الدول في أدائها، لكن المسؤولية الأولى تبقى على الشعوب نفسها التي يجب أن تطالب بحقوقها كاملة وعبر الوسائل الديمقراطية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"