الديمقراطية والرأي العام

03:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

تحقيق الديمقراطية وسيلة ولكن الوصول السليم إلى رأي عام حقيقي هو الغاية، ولقد قرأنا عن تطورات فكرية في النظرية الديمقراطية، وقد استمعت مؤخراً إلى الأستاذ الكبير سيد ياسين يتحدث عن (الديمقراطية التوافقية) بعد أن كتب عنها أكثر من مرة، وما يلح علي حالياً هو ضرورة التفرقة بين الديمقراطية أيًا كان نوعها وظاهرة الرأي العام باعتبارها تعبيراً جمعياً عن إرادة الناس دون حاجة إلى صناديق انتخاب أو إجراءات ديمقراطية، إذ إن استطلاع الرأي العام ينقلنا تلقائياً إلى التعبير المباشر عن إرادة الجماهير، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولاً: إن مصر هي صانعة الرأي العام في الشرق الأوسط بحكم التاريخ ومنطق الجغرافيا، فالمصريون شديدو الحساسية للأحداث وراصدون دائمون للمواقف، كما أن حجم الثرثرة لديهم يفوق بكثير ما لدى غيرهم، ويتساءل كثير من خبراء العلوم السياسية والنظريات السلوكية عن السبب في تنامي ظاهرة الرأي العام في مصر مع تراجع التجربة الديمقراطية وضعف النظام الحزبي فيها، حتى أصبح الرأي العام هو الذي يقود القرار ويوجه المسيرة على نحو يصيب المتابعين بالدهشة. إذ كيف يتأتى للمصريين أن يمارسوا حق التعبير الذي تتشكل منه ظاهرة الرأي العام رغم غياب الديمقراطية الكاملة وضعف مؤسساتها، ويكون الرد دائماً أن المصريين يقفزون إلى النتيجة من دون الأخذ بالوسائل لأنهم يدركون أن ذكاءهم الفطري وطبيعتهم التلقائية تصلان بهم مباشرة إلى القرار الصحيح ولو على المستوى الشعبي على الأقل لأن الحكومة ملتزمة بقرار ينبع من المؤسسات حتى وإن لم تكن قوية ومؤثرة. وتكون النتيجة دائماً هي وجود هوة بين القرار الرسمي والتيار الشعبي ولا يملأ تلك الهوة إلا الشائعات والحكايات والنكات.
ثانياً: لقد فطن الكثيرون إلى تلك الحقيقة التي تقوم على الاختلاف بين التطبيق الديمقراطي وظاهرة الرأي العام حتى إن جمال عبد الناصر قد اكتشف ذلك مبكراً، ففي ظل غياب المؤسسات الديمقراطية اعتمد عبد الناصر على تقارير الرأي العام واستطلاعاته من خلال الأجهزة الأمنية والتنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي العربي، وقد لا يكون البعض راضياً تماماً عن الأسلوب الناصري ولكن تبقى حقيقة مؤكدة وهي أن ذلك الزعيم الكبير كان يعمل حساباً كبيراً للرأي العام ولا يتجاهله، وقد سمعت من بعض المسؤولين في عهده أنه كان إذا وافق على رفع سعر إحدى السلع الأساسية مضطراً بمقدار قرش واحد فإنه يوصي بإعلان القرار في يوم الخميس الأول من الشهر حيث ينشغل الشارع المصري بحفل أم كلثوم. إنني أقول ذلك لكي أشير إلى نقطة محددة وهي أن الحاكم مهما علا قدره وتزايدت شعبيته فهو مطالب بأن يضع الرأي العام في حسابه حتى ولو كانت المؤسسات الرسمية ــ تنفيذية أو نيابية ــ داعمة له، لأن ظاهرة الرأي العام أوسع من ذلك وأكبر وهي التي تحدد الشعبية الحقيقية للحاكم، وهنا يجب فصل الأخلاق عن السياسة لأن الأخيرة بطبيعتها لزجة ولا تخلو من أساليب المناورة بل ولا تبرأ أيضاً من روح المؤامرة ولم يكن (مكيافيلي) إلا مسجلاً لذلك المعنى المتداول منذ عدة قرون.
ثالثاً: إن ظاهرة الرأي العام ذات ارتباط وثيق بالثقافة الشعبية والميراث التاريخي للجماعة البشرية ومصر أوضح نموذج لذلك، إذ إن الدولة فيها قديمة، كما أن شعبها قد عرف الغزاة والطغاة والبغاة لذلك لم يكن جديداً عليه أن يتجه دائماً إلى التأويل وافتراض سوء النية بسبب كثرة ما تعاقب عليه من أحداث صعبة ومواقف غريبة، فضلاً عن رؤيته الخاصة لما يدور حوله وفلسفته الفطرية التي جعلت الشكوى إحدى سماته الموروثة منذ عصر (الفلاح الفصيح). إننا أمام شعب تضرب جذوره في أعماق التاريخ فهو متدين بطبيعته، اجتماعي بفطرته، متجانس بهويته لذلك فإنه لا يعير الديمقراطية اهتماماً كبيراً ولكنه يتعلق بالسلطة التنفيذية تعلقاً شديداً.
رابعاً: إن المجتمع النهري الزراعي في مصر جعل الأرض ذات قداسة خاصة كما أن استمرارية الدولة قد جعلت المصريين أكثر التصاقاً بالأرض وغراماً بالوطن مع توجس دائم تجاه الآخر برغم طيبة الشعب وحدة ذكائه، حتى انفرد القاموس المصري بكلمة (فهلوة) والتي ليس لها مرادف واحد عند الترجمة إلى اللغات الأجنبية، إن ذلك الأمر قد أعطى المصريين إحساساً بالتفرد وحباً للتملك وقلقاً من كل جديد.
خامساً: إن سرعة سريان تأثير الرأي العام المصري محلياً وإقليمياً أكسبته قدراً من الأهمية التي لا يمكن تجاهلها والتي أصبحت مادة للتصدير من خلال الإعلام المصري بتاريخه المعروف والمؤثر رغم كل المآخذ عليه، ولقد لعب الأدب والفن والصحافة والمسرح والرواية والسينما دوراً أساسياً في تشكيل صورة مصر لدى الآخر، وأيضاً في تكوين إحساس الأجيال الجديدة بذاتها وفهمها المطلق لمعنى الحرية ولو على حساب المصالح العليا للوطن، إننا إزاء تركيبة خاصة لبلد يمتلك مقومات فريدة وتوجهات تحيل تلك الخصوصية إلى شعور بالذات قد يكون مبالغاً فيه أحياناً، لذلك نشط المصريون في ميدان الرأي العام ولم يتفوقوا كثيراً في مجال الديمقراطية وأساليبها فضلاً عن افتقاد المناخ المؤثر فيها والبيئة الحاضنة لها.
إن هذه الملاحظات الخمس هي محاولة للتحريض على التفكير في العلاقة بين تنامي ظاهرة الرأي العام في جانب وبطء العملية الديمقراطية في جانب آخر ولكي نقول في النهاية إننا نسعى نحو الغاية حتى ولو تعثرت الوسيلة، فالرأي العام المصري قوي دائماً ومؤثر أحياناً ولكن التطبيق الديمقراطي بطيء دائماً ومتراجع أحياناً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"