الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا

03:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
يبدو أن هذه المقولة التي أطلقها الشاعر الإنجليزي "روديارد كبلنغ" في نهاية القرن التاسع عشر تحمل الكثير من معاني الحقيقة التي لا تقبل التغيير، وأنها تجسد واقع العلاقات بين الشرق والغرب لا في العلاقات والتقاليد والموروثات الروحية والثقافية فحسب؛ وإنما تجسد حالة السياسة المتعارضة أيضاً . فقد كان الشرق القديم مختلفاً عن الغرب القديم ولا يزال الاختلاف قائماً حتى الآن، وربما زاد في العصر الحديث اتساعاً نتيجة الغزوات الاستعمارية الغربية .
وقد لا يختلف الحال كثيراً في المستقبل انطلاقاً من التجارب التاريخية من ناحية، ومن اختلاف التطلعات السياسية والاجتماعية من ناحية ثانية، وإذا ما حدثت هدنة ما بين الشرق والغرب فإنها عادة ما تكون مؤقتة وتعود الأمور إلى سالف عهدها . حدث ذلك في الماضي البعيد والقريب وحدث في الوقت الراهن، والشواهد في كل الأحوال تؤكد حقيقة أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا .
لقد تفاءلت كثير من الدوائر السياسية في الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وظنت أن عناقاً سياسياً واقتصادياً أصبح وشيك الوقوع بين هذين الاتجاهين الجغرافيين إلا أن التفاؤل لم يدم طويلاً، وبدأت رياح الحرب الباردة تدّب، وربما تحولت إلى ساخنة نتيجة لبقاء الرغبة الغربية الهادفة إلى الهيمنة وزعزعة استقرار الشعوب . ولا يتجسد هذا الشعور في حالة روسيا وحدها، ولا الصين وحدها، وإنما يكاد يكون شعوراً شرقياً عاماً يبدأ من الشرق العربي ولا يتوقف عند اليابان؛ الدولة الشرقية التي تخفي حنينها وطموحاتها تحت الرماد، وتحلم بأن يكون لها دورها المناوئ للهيمنة الغربية وشعورها بالتفوق العسكري بعد أن خسرت في ميدان الاقتصاد والتقدم العلمي الذي تتحرك إنجازاته على الأرض لا على الفضاء .
ذلك هو الشرق بطبيعته الراسخة وتقاليده الموروثة التي لا يمكن تجاوزها أو العبور فوقها مهما حكمت الظروف واستدعت نوعاً من المهادنة المؤقتة التي لا تخفي حقيقة هذا الاختلاف القائم منذ أقدم العصور بين الشرق والغرب . وما طبول الحرب التي تدق الآن في أوكرانيا وعلى شواطئ جزيرة "القرم" إلا التعبير الأحدث عن تلك الخلافات المزمنة، وأزعم أن كل إنسان شرقي يقف إلى جانب روسيا في هذه المعركة المفتعلة مهما كانت له من تحفظات على بعض التصرفات، يجد في موقف الغرب وأمريكا في المقدمة قدراً واضحاً من الانتهازية والتحرش المقصود وإيجاد حالة من عدم الاستقرار في ذلك الجزء الشرقي من الكرة الأرضية . واللافت في هذا الصدد استعداد الدول الأوروبية لتقديم عشرات المليارات رشوة للشعب الأوكراني ليستميت في تحدي موسكو .
يحدث هذا "الكرم" في الوقت الذي تموت فيه الملايين من سكان المستعمرات الأوروبية القديمة من الجوع والأوبئة، ولم نسمع بأن دولة أوروبية واحدة أبدت أدنى استعداد لمساعدة الجوعى في كل من آسيا وإفريقيا ولو من باب التضليل وذر الرماد على العيون المفتوحة على كل ما تعدّ له الدول الغربية من مشاريع للنهب والسلب .
إن الأنظمة الغربية هي العدو اللدود للشرق وللشعوب الغربية ذاتها، ونواياها لم تكن خفية في يوم من الأيام، وإذا كانت قد أثرت وبنت مدنيتها الغربية الباذخة على حساب الشرق الفقير الجائع فإنها لم تشبع من لحمه ودمه، ولا تزال تحرص على أن يوجد في كل مكان من الشرق كيان يستفز مجاوريه ويتحرش بهم، وما حالنا مع الكيان الصهيوني ببعيد عن عالم الأمس واليوم، ولن يهدأ للعرب بال أو ينام لهم جفن، وهذا العدو المزروع في أرضنا يهدد صباح مساء أمننا القومي ونسيجنا الاجتماعي والوطني .

د . عبدالعزيز المقالح

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"