الضحايا المدنيون العرب ..من يكتب قصتهم؟

04:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. أمينة أبو شهاب
المدنيون العرب الذين يُقتلون يومياً في سوريا والعراق، وتحرق وتدمر مدنهم ليسوا في دائرة الانتماء إلى البشرية في نسخة القرن الحادي والعشرين لتعريف البشر ولأحقية الحياة والكرامة الإنسانية. للغرب تصنيفات ومنازل مختلفة للضحايا المدنيين للحروب، وأغلبهم ضحايا مباشرين أو غير مباشرين لحروبه الشاملة، وتصنيف هؤلاء المدنيين العرب والأطفال على رأسهم، هو اللا بشر (نون هيومنز). وليس هذا استنتاجاً انطباعياً مما يدور في هذه الأيام في حلب، أو ترجمة لأسئلة الضحايا المدنيين السوريين وهم يلقون عبارتهم المعتادة عن سبب عدم اعتبارهم من البشر، وذلك في وجه العالم الذي خذلهم. الأمر بالأحرى يتعلق بالغرب وذهنيته التي تميل إلى سلب الصفة البشرية عن بعض الأجناس، وإنزالهم إلى ما هو أقل من الإنسان «ديهيومنايزيشين»، وبالتالي يصبحون خارج الشمول بحقوق الإنسان الطبيعية، ومنها حق الحياة والعيش، بل تصبح الإبادة نفسها متاحة وممكنة دون اعتراض أو ضجيج. هذا الميل الثقافي أو الذهني الذي تدور حوله أدبيات تاريخية وأنثروبولوجية عديدة، ألا يظْهر تجليه المعاصر في المجازر المتتابعة في سوريا وحلب بالذات، وسكوت الغرب عنها؟
وأبعد من ذلك، هل كانت حلب بمئات آلاف سكانها المحاصرين والمحشورين في بضعة كيلومترات بعيدة عن مفهوم الإبادة البشرية؟ ألم يخرج سكانها في الحرب المستمرة منذ أربع سنين من النطاق البشري حين عاشوا واقعياً حياة ما تحت خط الحياة، وقتلًا يومياً بالإمكان الآن رؤية حقيقة أنه كان يشكل إبادة بالتقسيط، بحيث إننا كنا لا نرى المحصلة العددية الكلية للقتل في ذلك الموت المقسوم زمنياً. والأمر نفسه ينطبق على غارات التدمير، وهي مهمة موازية للقتل وللقضاء على الحياة البشرية. خراب حلب، إحدى أعظم مدن التاريخ وأكثرها حياة وازدهاراً، كان أيضاً على مراحل، مثل القتل المتعمد لسكانها والذي تم فيه تحليل كل الأسلحة المحرمة دولياً.
وإذا ما أعدنا الربط ما بين المدنيين وبيئتهم المكانية، بين القتل لأهل حلب، وحلب المدينة التي تكون المكان بما يحويه من بيوت وعمارات ومساجد وأسواق ومستشفيات وحياة مدنية متكاملة، لا تخفى صورة اجتثاث مجتمع كامل من الوجود المكاني وقبل ذلك من الحياة أساساً. والسؤال هنا هو هل كان يمكن أن تحدث هذه المحرقة لو كانت الحرب عسكرية صرفة في طبيعتها وهدفها وحدودها، ولو كانت دون نار الأيديولوجيا الطائفية لإيران ولهيبها وحقدها الجهنمي وربطها معنى «الانتصار» وإطباق السيطرة بمشهد تدمير هذه الحاضرة العربية وإفناء أهلها أو تهجيرهم.
محنة حلب هي أن الروس والإيرانيين قد التقوا على الهدف العملي في قتل أهلها وتدميرها بما يحقق غاية «الانتصار» لكليهما في غيبة تامة مما يدعى ضميراً عالمياً، حيث لم يطرح أبداً وبشكل علني سؤال جوهري يقول: لماذا الحاجة إلى هذا الإجرام المفرط في القتل للمدنيين؟ ولماذا التدمير الشامل للمدينة؟
يقارن البعض بين مدينتي برلين وغروزني وحلب، ومجزرة القرن الواحد والعشرين فيها، والحقيقة أن حلب تقدم صورة أسوأ للجريمة المرتكبة في حق المدنيين. زمن القتل في حلب هو زمن تكنولوجيا الإعلام وذروة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر هذه الوسائل كان يحدث القتل اليومي الإجرامي للأطفال والتدمير لحلب المدينة أمام أعين الجميع. لم يغير فيديو الطفل عمران وظهوره على حسابات معظم الصحفيين والمثقفين في العالم شيئاً، ولا
عيلان قبله، ولا المشهد اليومي للأكفان الصغيرة المحتوية على أطفال حلب بأجسادهم الضئيلة. القتلى صغاراً وكباراً ظلوا مجرد أرقام دون مرجعية أو انتماء بشري. لو كانوا في نظر الغرب بشراً أو على درجة ما من البشرية مثل الأكراد أو اليزيديين، لكان للعالم موقف آخر مثل الموقف ضد صدام وداعش، ولكانت الأمم المتحدة ومنظماتها قد أخذت جانبهم ولم تقف مع الأسد عيلان، سواء كان ذلك علانية أو خفية.
الصمت الدولي إزاء حلب كان فاضحاً في قلة الاعتبار للضحايا السوريين ورخص دمهم بما لا يقارن بالدرجة الإنسانية واستحقاقها للحياة، وهو لذلك كان ترخيصاً مفتوحاً لبوتين والأسد والإيرانيين لإكمال مهمة شراكة نار الأيديولوجيا الطائفية مع الآلة العسكرية الروسية بكل جبروتها وهمجيتها واستهدافها المتوحش للحم البشري وتدمير كل ما هو مبني وقائم على الأرض في سبيل الوصول إلى «الانتصار». هذا الصمت الدولي، كما يتبين الآن، لم يكن إلا انتظاراً لغارات الروس وبراميل الأسد وميليشيات إيران لأن تصل إلى نهايات أكثر عمليات التطهير دموية وشمولًا. وهو ليس تطهيراً من الإرهاب، بل لحلب من سكانها المدنيين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"