المرونة الاستراتيجية

04:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

يتوهم كثير من خبراء العلاقات الدولية، ومخططي الاستراتيجيات، أن الأمور تمضي معهم جامدة لا تتحرك، وتظل في قوالب ثابتة لا تتغير، بينما الأمر أصبح مختلفاً تماماً عن ذلك الطرح، فنحن في مواجهة عصر يتميز بالديناميكية في التحالفات، والحيوية في التحركات، وبالتالي لم تعد الاستراتيجية أستاتيكية كما كانت، بل أصبحت كائناً يتقدم ويتأخر، ويعطي ويأخذ، ويؤثر ويتأثر، فهل تستطيع قوة كبرى في عصرنا الحالي أن تضع حدوداً ثابتة لتحركاتها؟ الإجابة بالنفي. فالكل يدرك أننا في عالم يجري بلا توقف ويشهد تحولات سريعة في أوقات قصيرة، وقد تتخذ دولة ما قراراً معيناً وفقاً لاستراتيجية محددة، ولا تستطيع تطبيق ذلك القرار، أو حتى الجهر به، لأن القوالب الجامدة في السياسات طويلة المدى أمر نظري بحت غير قابل للتطبيق على أرض الواقع، فالرؤية الشاملة لسياسات دولة معينة لا تسمح بوجود استراتيجيات تفتقد الحيوية، أو تفتقر كياسة القرار، وملاءمته للظروف المتغيرة، وصانع القرار، أو المخطط الاستراتيجي لا يضع عبارات مقدسة، أو أفكاراً غير قابلة للمناقشة، فلابد من المواءمة بين ما قرره المفكر الاستراتيجي، أو صاحب القرار السياسي.

وبين مقتضيات الحال وتطورات الأحداث، إنني أقول ذلك وأنا أرى أن لدى العرب عموماً، خلطاً دائماً بين الخطوط العريضة والأهداف العامة في جانب، وبين السياسات المرحلية والقرارات المطلوبة في جانب آخر، ولا أظن أن هناك من خرج عليها في تاريخنا الحديث، إلا اثنان، أحدهما في العهد الملكي، والثاني في العهد الجمهوري، ففي العهد الملكي تمثلت رؤية (عدلي يكن) بعد خروجه عن الوفد هو ورفاقه في ضرورة اتباع سياسات مرنة، وتفاوض مستمر مع الجانب البريطاني، بينما كان (سعد زغلول) هو والأغلبية الكاسحة يرون أنه لا مفاوضات إلا بعد الجلاء، وكان البعض يتساءل: إذا تم الجلاء فعلام التفاوض إذاً؟ هي على كل حال مدارس في الوطنية لا يقلل من قيمتها، ولا يؤثر فيها اختلاف الرأي واجتهادات الرؤى، أما الثاني وبحق فهو أنور السادات - تتفق معه أو تختلف - إلا أنه امتلك القدرة على تقديم طرح غير تقليدي، واتخذ موقفاً جديداً في ظل استراتيجية مرنة، حيث آمن بأن 99% من أوراق حل المشكلة الفلسطينية في يد الولايات المتحدة الأمريكية، ومضى في سياسات كامب ديفيد من منطلق وطني قد لا يكون هو الأفضل بالضرورة قومياً، ولذلك فإن أنور السادات يمثل مدرسة غير تقليدية للسياسة والحكم بعد عام 1952، وعلى الجانب الآخر وقف عبد الناصر في شموخه المعتاد متمسكاً بمبادئه وأفكاره حتى لفظ أنفاسه الأخيرة واقفاً يدافع عما آمن به، والحقيقة أنه رغم اختلاف المدرستين - بين ناصر والسادات مثلما هي بين زغلول ويكن - إلا أن المفاضلة في غير محلها، فباب الاجتهاد مفتوح ولا يصادر المرء على شيء بما ألزم به نفسه وصنعه على عينه وكتبه بيديه ما دام لا يطعن في الثوابت، ولا يخرج على الأهداف النهائية والغايات التي يسعى إليها الجميع، إنني أقول ذلك وأطرح الملاحظات الآتية:
أولًا: إن أسلوبنا في رفض خيارات الآخر والهجوم على كل توجه جديد هو برهان على العدوان الإنساني بالدرجة الأولى، وإغلاق تحكمي للأفق المفتوح وضربة قاصمة لباب الاجتهاد الذي فتحه الإسلام، وهو دين فما بالك بالاجتهاد في السياسة وهي صناعة بشرية تختلف وفقاً للزمان والمكان! ولا نزال نتذكر الهجوم على عدلي يكن إلى حد رفع شعار (الاحتلال على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلي)، بينما تلقى الرئيس السادات هو الآخر انتقادات عربية ومصرية جاوزت الحدود، وأحدثت قطيعة بين مصر وشقيقاتها العربيات لعقد كامل من الزمان، فهكذا نحن دائماً بارعون في تكفير الآخر، مسارعون إلى رفض اختيارات الغير، مغرمون بتسفيه كل جديد من دون دراسة متأنية، أو وعي حقيقي.
ثانيًا: إن الظروف متغيرة والأمور في الحياة لا تستقر على حال، ويجب ألا يحصر المرء نفسه في حارة ضيقة، وأمامه الشوارع الواسعة والميادين الكبيرة يتحرك فيها بمرونة، ويلتقط من الأفكار العالمية والرؤى الجديدة، ما يسمح بمراجعة استراتيجياته، وليس ذلك عبثاً أو تلاعباً، ولكنه جزء لا يتجزأ من فهمه للحياة، وإدراكه لطبيعة الوجود، فالإنسان لا يقيد نفسه بما صنعه وهو في النهاية سيد قراره، ومنتج أفكاره، والمستجيب دائماً لما يدور حوله في إطار أهدافه، ومصالحه، ورؤيته البعيدة لغاياته النهائية.
ثالثًا: إننا ينبغي أن نتوقف عن القسوة الزائدة في انتقاد كل جديد، والرفض الأعمى لما لا نتفق معه، وقديماً قالوا (إن المرء عدو ما يجهله)، فهو بطبيعته رافض للتغيير متمسك بالحاضر، يشده حنين لا يتوقف نحو الماضي، والعرب ماضويون بالطبيعة، يرددون أشعار ديوان الحماسة - صباح مساء - ولا يعيشون غالباً حياة العصر كما هي، أما المصريون فلديهم حنين إلى اليوم السابق، ويشدون الرحال إليه في عاطفة زائدة وشعور إنساني دافق، وفي كل عصر تباكى بعض المصريين على عهد سبقه، فتلك صفة راسخة منذ العهد الفرعوني، وأنا أتذكر الآن ما كتبه ابن المقفع منذ أكثر من ألف عام تحت عنوان (فضل الأقدمين)، وهو يتباكى على الفضيلة التي غابت، والمروءة التي اختفت، والأخلاق الحميدة التي اندثرت، والبشر المحترم الذي لم يعد له وجود.
إنني أريد أن أقول بإيجاز أن الحياة متجددة، والأفكار متدفقة، والمرونة الاستراتيجية ليست نقيصة، ولا عيباً ولا تراجعاً، ولكنها مراجعة أمينة للأحداث والمواقف والمتغيرات حولنا والتطورات التي تحيط بنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"