المصارف المركزية والفوائد اللبنانية

01:48 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

مستوى الفوائد في لبنان مرتفع بسبب ما يعرف بالمخاطر السياسية التي يقيمها المواطنون العاديون والمستثمرون. الفوائد المرتفعة تعني نقداً ضعيفاً؛ إذ تشكل الفائدة نوعاً من الرشوة؛ كي يختار المواطن النقد الوطني، في اقتصاد ربط نقده بالدولار.
المصارف المركزية مهمة في أي اقتصاد. سياساتها تعطي نتائج إيجابية إذا أحسن استعمالها؛ لكن السياسة النقدية وحدها لا تكفي، ولا بد من سياسات مكملة مالية وهيكلية وقانونية ومؤسساتية وغيرها. معظم الدول أعطت الاستقلالية للمصارف المركزية؛ كي لا يتأثر المسؤولون عنها بالتطورات السياسية، وليعالجوا الأوضاع بدقة ومنطق. أول مصرف مركزي في العالم كان السويدي، الذي تأسس في سنة 1668 وتبعه الإنجليزي في سنة 1694 والفرنسي في 1800. أهم مصرف مركزي هو الأمريكي الذي تأسس في 1914. يقول قانون «هامفري - هوكينز» الصادر في 1978 إن على المصرف المركزي الفيدرالي «أن يعمل ما يلزم؛ لتخفيض البطالة، لتحقيق استقرار الأسعار كما مستوى فوائد طويلة الأمد معتدلة». نسبة التضخم المقبولة هي 2% دون أن تحدد نسبة البطالة لصعوبة ذلك. كيفية الوصول إلى هذه الأهداف تبقى مسؤولية المصرف، ولا يتعاطى بها المشرع. هنالك مشكلة مبدئية أي أن الأهداف كبيرة جداً، وربما تتعدى إمكانات المصرف المركزي الأمريكي، فهنا تكمن ضرورة التنسيق مع السياسات الأخرى.
ما دور المصرف المركزي في أي اقتصاد؟ له دوران نقدي ومالي. الأول يعني تحريك الفوائد لتوجيه الاقتصاد نحو الاستقرار. ترفع الفائدة عندما تكون هنالك توقعات تضخمية تضر بالبلد وبالقوة الشرائية للمواطنين. تخفض الفوائد؛ لتشجيع الاستثمارات وتخفيض البطالة وهذا مهم جداً في أي اقتصاد. في لبنان، قرر المصرف المركزي منذ بداية التسعينات ربط الليرة بالدولار، وهو قادر اليوم على الدفاع عن سعر الصرف مهما كان مستوى الفوائد. تم الربط؛ بسبب التجارب العملية المؤذية التي تمت في الثمانينات، وأنتجت سقوطاً مدوياً لليرة تجاه كل النقد الأجنبي. سقوط الليرة ضرب القدرة الشرائية للبنانيين، وساهم في دفع المواطنين إلى الهجرة. مشكلة الربط النقدي هي أن الخروج منه صعب، ويتطلب أقله حصول فترة طويلة من الاستقرار لم ننعم بها بعد في لبنان.
إذاً فيما يخص الدور النقدي اللبناني، لقد ربطناه بالسياسة النقدية للمصرف المركزي الأمريكي، الذي يتمتع بالخبرة والحكمة والشفافية، والكثير من المسؤولية. من مساوئ الربط هو أنه يصبح مضراً؛ عندما تكون الأوضاع الاقتصادية في لبنان مختلفة أو معاكسة للأوضاع في الولايات المتحدة، وهذا ما يحصل في العديد من الأحيان وليس دائماً. هنالك سياسات أسعار صرف مختلفة عالمياً، والسياسة الفضلى هي السعر الحر كما كان الحال في لبنان، خاصة حتى سنة 1975 وكما هي الحال في معظم الدول الصناعية. اعتمد لبنان السعر الثابت تجاه الدولار قسراً؛ نتيجة الأوضاع المعيشية التي لحقت باللبنانيين.
أما الدور الثاني للمصرف المركزي؛ فهو الدور المالي العام الذي يعني التزام المصرف بتحقيق الاستقرار المالي في الأسواق من مصرفية وبورصة وغيرها. يلعب مصرف لبنان هذا الدور جيداً؛ عبر الرقابة المصرفية وعبر الإجراءات والقرارات التي يأخذها دورياً؛ لتأمين استقرار الأسواق. يحاول المصرف المركزي تطوير الأسواق المالية، وتنويعها بدءاً من بورصة بيروت إلى غيرها من الأسواق المشتقة والفرعية؛ لكن نسبة النجاح ما تزال خجولة حتى اليوم. أما الدور المكمل فهو دور إقراض المصارف كحل أخير أي عندما لا يجد المصرف من يقرضه في السوق المالية فيلجأ إلى المصرف المركزي للإنقاذ. تفضل المصارف المركزية أن تقترض المصارف من بعضها؛ لإحياء السوق المالية، ولا تحبذ أن تقوم هي مباشرة بالإقراض.
كيف لعب المصرف المركزي الأمريكي دوره قبل وخلال أزمة 2008، فنجح في تخفيف حدة الأوضاع الاقتصادية؟
أولاً: في السياسة النقدية وبعد تجارب الأزمة الكبيرة في سنة 1929، أحسن المصرف إدارة هذه السياسة؛ لمعالجة أمراض 2008. في 1929، رفع المصرف المركزي الفائدة؛ لكي يبقي السوق الأمريكية جاذبة للمستثمرين. كان هذا خطأ كبيراً؛ إذ المطلوب كان تخفيض الفوائد؛ لجذب الاستثمارات وإحداث النمو. في 2008، خفض المصرف المركزي الفائدة إلى ما قارب الصفر، وأنقذ الاقتصاد الأمريكي كما العالمي.
ثانياً: في السياسة المالية لم يقرض المصرف الفيدرالي في 1929 المصارف المحتاجة إلى السيولة؛ فتركها تسقط بالآلاف. أما في 2008، تدخل المصرف الفيدرالي وأنقذ العديد من المؤسسات، واشترى السندات في الأسواق؛ لتعزيز السيولة. دروس الماضي استوعبها المصرف والمسؤولون، وجنبوا الاقتصاد العالمي سقوطاً كارثياً ومكلفاً.
إن مستوى الفوائد في لبنان مرتفع؛ بسبب ما يُعرف بالمخاطر السياسية التي يقيمها المواطنون العاديون والمستثمرون. الفوائد المرتفعة تعني نقداً ضعيفاً؛ إذ تشكل الفائدة نوعاً من الرشوة؛ كي يختار المواطن النقد الوطني. في اقتصاد ربط نقده بالدولار، لا بد وأن تكون نظرياً الفوائد متعادلة، وهذه هي حال الاقتصادات الخليجية مثلاً. أما في لبنان الذي يعتمد منذ عقود أسعار صرف ثابتة، فالفارق يعود إلى عدم استقرار الأوضاع؛ حيث لم ننعم بعد ومنذ اتفاق الطائف باستقرار ثابت، ولم نصبح محط ثقة الداخل والخارج. الفارق بين الفائدة على الدولار والفائدة على الليرة متحرك، ويرتبط بالأوضاع الداخلية. كلما استقرت، تدنى الفارق، وكلما توترت يحصل العكس. الفوائد في لبنان مرتفعة مما يعيق الاستثمارات، ويرفع من كُلفة التمويل. هذا يعني نمواً أضعف، وبالتالي بطالة أعلى. الفوائد العالية مفيدة؛ كي لا تهرب الأموال من لبنان؛ لكنها مضرة بسبب تأثيرها السلبي على النمو؛ كي تنخفض هذه الفوائد لا بد من حصول الأمور التالية مجتمعة:
أولاً: الأوضاع السياسية العامة؛ إذ إن ما جرى منذ أسابيع مثلاً في قضاء عاليه يعيدنا سنوات إلى الوراء، ويظهر للرأي العام أن الأوضاع الداخلية ليست مستقرة كما اعتقدنا، كما يظهر للخارج أيضاً أن أسباب الحروب اللبنانية من طائفية ومذهبية ومناطقية وغيرها ما تزال حية وموجودة وتغلي أحياناً من بعض الدماء؛ لذا لن تنخفض الفوائد قبل أن يطمئن المواطن إلى معالجة موضوع «عاليه» وغيره معالجة جدية وليس مسايرات كما جرت العادة في السابق. لا بد أن نقلق أيضاً على مصير الوضع السياحي هذا الصيف؛ إذ نعول الكثير على قدوم المنتشرين والأصدقاء من خليجيين وغيرهم؛ للاستفادة من مزايا لبنان السياحية. كنا نأمل أن يشكل الوضع السياحي الرافعة للنمو الاقتصادي العام.
ثانياً: إنهاء الجدال البيزنطي حول الموازنة ونقل النقاش الجدي إلى مشروع 2020؛ حيث الوقت يداهم والتأخر يستمر والوقت يهدر. نأمل ألا يأخذ مجلس النواب وقته الطويل «المتلفز» ليناقش مشروع الموازنة على مدى أيام طويلة قبل التصويت الإيجابي عليه. الوقت مهم جداً دائماً، وخاصة هذه الأيام.
ثالثاً: البدء الجدي بالإصلاحات؛ إذ ماذا يوجد أهم من مكافحة الفساد الذي لم يبدأ عملياً بعد؟
الكلام كثير وكبير لكن التقدم على الأرض ما يزال خجولاً، الإصلاحات تعني الاستفادة من «سيدر» وأهم منه قدوم الاستثمارات إلى لبنان من الداخل والخارج. اللبناني يريد الاطمئنان على الأمن والإصلاحات؛ كي يستثمر وهذا واضح. الأموال موجودة؛ لكنها موجودة في المصارف ولا تنزل إلى السوق. لن تعود الاستثمارات أيضاً قبل معالجة المواضيع البيئية، وبعض البنية التحتية السريعة مع بدء موسم الاصطياف.
أخيراً، الفوائد العالية تشير إلى القلق الداخلي، وضعف الثقة الخارجية. تصرفاتنا المتنوعة لا تعالج هذه المخاطر؛ بل تعززها. العالم يتقدم ويسبقنا، ونحن نضيع الوقت ولا نبني اقتصاداً قوياً ومستقراً للمستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"