انفصال كاتالونيا.. وتهديد الوحدة الإسبانية

03:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
من الصعب أن تعثر على ناد رياضي يجذب مؤيدين من كل أنحاء العالم أكثر من نادي برشلونة، بعض المشجعين يعدون أن تشجيع النادي يحتل أولوية على نواديهم الوطنية، وتكاد أسماء لاعبي النادي أن تكون معروفة ومتداولة أكثر من أسماء السياسيين الإسبان أنفسهم. تجدر الإشارة إلى أن برشلونة تقع في مقاطعة كاتالونيا ذات الحكم الذاتي، التي تطالب بالاستقلال عن إسبانيا، وتشكيل جمهورية كاملة السيادة.
الشهرة العالمية العابرة للقوميات والوطنيات، التي يتمتع بها النادي الكاتالوني، يراد لها أن تكون، بين عناصر أخرى أكثر أهمية، سبباً في استقلال المقاطعة التي لم تكن يوماً دولة مستقلة، لكنّ تياراً وطنياً تكون خلال العقود القليلة الماضية ما برح يطالب بالانفصال.
في خلفية الدعوة الانفصالية فإن هناك أسباباً قديمة من نوع طغيان الثقافة الجمهورية على الملكية. فقد تشكلت جمهورية في المقاطعة ضد الملكية في مدريد عام 1932 لكن فرانكو قمعها، ولم ترتفع مجدداً إلا في عام 1977؛ حيث أعلنت المقاطعة الحكم الذاتي كغيرها من المقاطعات الإسبانية، وهي تحتفظ بحكومة محلية وبرلمان كاتالوني، وتدير الحكومة التربية والتعليم والأمن الداخلي والاقتصاد المحلي، ولديها شرطة محلية أيضاً إلى جانب علم ولغة خاصة ونشيد وطني، وتضم 8 ملايين نسمة سبق أن تظاهر نحو مليون منهم طلباً للاستقلال وهذا يعد رقماً مرتفعاً للغاية قياساً بالاحتجاجات أو المطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي.

وتتميز المقاطعة عن غيرها من المقاطعات بغناها النسبي؛ إذ تنتج 20 في المئة من الدخل الوطني الإسباني، ومنها تخرج ربع الصادرات الإسبانية إلى الخارج، ويعد ميناء برشلونة الأكبر والأهم على البحر المتوسط ولديها أيضاً 4 مطارات دولية، إلى جانب عدد مهم من مقرات الشركات المتعددة الجنسية.

التيار الاستقلالي الكاتالوني يعتبر أن دخل المقاطعة يمكن أن يحل مشاكل المديونية فيها إذا ما استعادت الضرائب التي تدفعها للحكومة المركزية في مدريد. ولعل هذا ما يغري السكان بالاستقلال، بيد أن تقديرات أخرى تفيد أن استقلال المقاطعة من شأنه أن يحرم كاتالونيا من مصادر دخل مهمة للغاية؛ لأنها في هذه الحالة ستكون مجبرة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي يعترف بإسبانيا فقط وليس بالانفصاليين الذين يحق لهم تشكيل جمهورية، وفي هذه الحال سيكون عليهم التقدم بطلب عضوية تقرره الدول ال27 الأعضاء في الاتحاد، التي لا تميل أبداً إلى تشجيع الحركات الانفصالية في أي من الدول المذكورة.

لكن هذه الفرضية تستدعي موافقة الحكومة المركزية على الانفصال، وهو أمر غير مؤكد، فقد رفض رئيس الوزراء الإسباني قرار البرلمان الكاتالوني بإعلان الاستقلال، واعتبره غير دستوري، واعتبر أن تحديد موعد 1 أكتوبر/تشرين الأول القادم لإعلان الجمهورية المستقلة غير شرعي أيضاً. ويمكن لرئيس الحكومة في مدريد أن يتجاهل نتيجة الاستفتاء على الاستقلال، ويعتبرها وكأنها لم تكن، لكن ذلك ينطوي على مخاطرة كبرى تكمن في أن الانفصاليين قد يجمعون أصواتاً راجحة في الاستفتاء، وإن فعلوا سيكون تمثيلهم كبيراً إلى حد يصعب دحض حججهم الاستقلالية بالمقياس الديمقراطي..
وفي هذه الحالة يمكن إرسال رجال الجيش لمنع الاستفتاء؛ لأن الدستور الإسباني ينص على حماية وحدة أراضي البلاد بواسطة القوات المسلحة، وبما أن الاستفتاء الذي يتم من طرف واحد ينطوي على تهديد صريح للوحدة الوطنية، فإن استخدام الجيش ضده يعد شرعياً؛ لأنه يهدد الوحدة الإسبانية، لكن التقديرات تفيد بأن استخدام العنف وسقوط قتلى وجرحى من شأنه أن يلحق أذى بالحكومة المركزية، ويزيد النزعة الانفصالية اضطراماً؛ لذا يُرجح المراقبون المحليون أن يعتمد رئيس الوزراء ماريانو راخوي، الأساليب الدستورية خصوصاً أن المحكمة الدستورية أعلنت أن الاستفتاء غير شرعي وغير قانوني، وسيعتمد أيضاً ضغوطاً على الإدارة المحلية، وسيلجأ إلى معاقبة الإداريين، الذين يشرفون على الاستفتاء، لكن ذلك كله لا يحل المشكلة طالما أن الانفصاليين يصرون على مبادرتهم التي أقرت في البرلمان المحلي، التي كانت في أساس انتخابهم ممثلين للشعب في الانتخابات التشريعية عام 2012.
يفيد ما سبق أن المبادرة الانفصالية في طريقها إلى صناديق الاقتراع، وأن أحداً لن يتمكن من منع الاستفتاء، علماً بأن الرهان على أن يكون المقترعون أقلية فإن ذلك من شأنه أن يضعف تمثيل الانفصاليين.
أما حصول المبادرة على تأييد شعبي كاسح فإنه يشكل حرجاً كبيراً للحكومة التي لن يكون بوسعها قمع تطلعات أكثرية شعبية، وسيفتح الباب على تشريع مبادرات انفصالية أخرى من النوع الذي يريده الكاتالون، أي انفصال الأغنياء عن الفقراء، والعيش بعيداً عنهم، وانفصال الأقليات الإتنية عن أكثريات مسالمة، وفي هذا تهديد حقيقي لوحدة أراضي إسبانيا، وربما تنتقل العدوى إلى بلدان أخرى، ما انفكت الحركات الانفصالية تؤرق وحدتها شأن الباسك في فرنسا وإسبانيا، والكورسيكيين في فرنسا، والكاليدونيين وغيرهم.
ثمة من يسأل في مثل هذه الحال عن مصير نادي برشلونة، وعن مصادر الثروة الناجمة عن السوق الإسبانية والسوق الأوروبية وهل تبقى على حالها ؟ الجواب البديهي أن انفصالاً واقعياً على الأرض ودون الاعتراف بشرعيته لن يغير شيئاً في طبيعة العلاقات بين الكتالون والحكومة الإسبانية، والانفصال الشرعي والدستوري ممنوع؛ لأنه يهدد وحدة أراضي هذا البلد. يبقى أن العلاقة بين الطرفين ستكون متأزمة للغاية، وفي هذه الحال قد نشاهد لاعبي نادي برشلونة يرفعون قبضات الانتصار في الملاعب تحت شعارات وأوصاف استقلالية، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى أزمة مفتوحة لن تستقر بعدها الحال بين الحكومة المركزية والحكومة الانفصالية في برشلونة.


فيصل جلول
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"