بوتين والتوازنات السياسية في روسيا

03:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تشكل الانتخابات المحلية في روسيا التي ستجري غداً، مناسبة للكثير من المراقبين لطرح إشكالية السلطة ونظام الحكم في روسيا التي شهدت تحولات عميقة منذ نهاية القرن الماضي، مع وصول فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم، لاسيما وأن روسيا عاشت خلال صيف هذه السنة على وقع احتجاجات قادتها المعارضة للمطالبة بفتح مجال المشاركة السياسية للجميع دون إقصاء. وعلى الرغم من الضعف النسبي لهذه التعبئة الجماهيرية المطالبة بالتغيير، نتيجة احتفاظ بوتين بشعبية كبيرة على مستوى الرأي العام الروسي، فإن هذه الاحتجاجات طرحت أسئلة جدية بشأن الإمكانيات الحقيقية التي يمتلكها نظام الحكم من أجل ضمان الاستقرار السياسي في البلاد، بعد نهاية الولاية الرئاسية الحالية لبوتين في النصف الأول من سنة 2024.
ومن الواضح أن نتائج الانتخابات المحلية لهذا الشهر ستُكرِّس سيطرة المجموعة السياسية المقربة من دائرة الرئيس بوتين، بعد أن قامت اللجنة المشرفة على الانتخابات باستبعاد أبرز رموز المعارضة الروسية التي تظل حتى الآن، مشاركتها في المشهد السياسي جد متواضعة، وخاصة تلك التي تحمل مشروعاً سياسياً يتطابق مع المقاربة الغربية للممارسة السياسية؛ إذ إن روسيا وعلى الرغم من مرور عقود من انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن الشعور القومي المعادي بداخلها للغرب، مازال قوياً ويُرسِّخ بشكل قوي حكم النخبة السياسية الراهنة التي تقود مشروعاً سياسياً وطنياً قائماً على أولوية مواجهة التمدد الغربي، وعلى استعادة عناصر القوة العسكرية والاقتصادية لروسيا.
ويشير المتابعون للشأن الروسي إلى أن التيار القومي المحافظ استطاع خلال سنوات حكم الرئيس بوتين الأخيرة، أن يحسم لصالحه الصراع الذي ظل قائماً بينه وبين التيار الليبرالي حتى فترة حكم ديمتري مدفيديف (من 2008 إلى 2012)، حيث أدى تأجج الصراع مجدداً مع الغرب، لاسيما بعد قرار ضم شبه جزيرة القرم، إلى تراجع رهيب في نفوذ الشخصيات الليبرالية المقربة من دوائر الحكم في الكرملين، وبات قسم كبير من المجتمع الروسي المتأثر بالدعاية الرسمية المعادية للغرب يشعر بعدم الارتياح تجاه كل ما له صله بالتيار الليبرالي وبالسياسة الأوروبية والأمريكية، ودفع هذا المناخ السياسي النخبة الاقتصادية والمالية الموروثة من مرحلة بوريس يلتسن، إلى التخلي عن المعسكر الليبرالي والالتحاق بفريق المحافظين بقيادة بوتين.
كما يذهب المتابعون في السياق نفسه، إلى أن الطابع العمودي لهرم وبنية السلطة في روسيا، يجعل كل مؤسسات الدولة بما فيها البرلمان، عبارة عن قشرة أو قوقعة فارغة، لأن مجمل السياسات العامة للدولة تتمحور بشكل أساسي حول شخصية بوتين الذي يقود الدائرة المصغرة التي تتحكم في مفاصل الدولة وتتابع بشكل مباشر كل القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبرى لروسيا، خاصة بعد سقوط أكبر رموز الألغارشية الروسية التي بسطت نفوذها على مفاصل الدولة الروسية في فترة حكم يلتسن.
ويقود هذا الطابع العمودي لبنية السلطة في روسيا إلى التفكير بشكل مبكر جداً في سيناريوهات انتقال السلطة في روسيا مع حلول سنة 2024، لاسيما أنه سيكون من الصعب على هذا الأخير أن يتحايل مجدداً على الدستور، كما فعل سنة 2008، عندما ترك المجال لرئيس وزرائه مدفيديف من أجل قيادة البلاد قبل العودة إلى سدة الرئاسة سنة 2012، فليس هناك ما يضمن أن تسير الأمور على أحسن ما يرام في الفترة الممتدة من 2024 إلى 2030، في حال تكرار مشهد تبادل الأدوار بين رئيس الدولة ورئيس وزرائه، أو بينه وبين أحد كبار المقربين من دائرته الضيقة.
وفضلاً عن ذلك، فإن بوتين سيكون متقدماً في السن بحلول سنة 2030، وسيكون من الصعب عليه أن يحافظ على استقرار الأوضاع في دولة/قارة بحجم روسيا.
كما تفرض البنية الحالية للسلطة في السياق نفسه، تحدياً أكبر بالنسبة لإمكانية الانتقال الهادئ والسلس للسلطة في روسيا؛ لأن غياب استقلالية المؤسسات يفرض على الرئيس الحالي عدم مغادرة الحكم قبل إيجاد الشخصية التي يمكنها أن تحل محله، والتي من المفترض أن تحظى بثقته وتضمن من ثم سلامته وسلامة الدائرة المحيطة بحكمه، التي تتحمل الآن، مسؤولية اتخاذ القرارات الحاسمة على المستويين الداخلي والخارجي، لاسيما وأن نسق تسيير الدولة في روسيا يعتمد على تداخل غير مسبوق ووفق نموذج غير مألوف، على المستوى الدولي، تمتزج فيه مصالح الدولة مع مصالح كبار رجال الأعمال في البلاد، بالشكل الذي يمكن فيه للدولة أن توظف لمصلحتها ولحسابها ممتلكات القطاع الخاص والعكس صحيح، من منطلق أن هذا القطاع لم ينشأ من بيئة اقتصادية تنافسية وإنما نما وترعرع ليكون ذراعاً من أذرع الدولة الضاربة والمؤثرة في المجالين الاجتماعي والسياسي.
وصفوة القول إن التوازنات السياسية في روسيا لا يمكن الحديث عنها والتنبؤ بها اعتماداً على المعايير السياسية المتعارف عليها في الأدبيات السياسية الكلاسيكية، فقد تولى بوتين السلطة بطريقة فجائية وسيكون الانتقال السياسي فجائياً دون ريب، بعيداً عن مجمل السيناريوهات التي يتوقعها أغلب المراقبين الغربيين للشؤون السياسية في روسيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"