رؤية في الإرهاب التكفيري

05:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
أضحى العنف الأعمى ظاهرة واسعة التمدد في البلاد العربية، بمشرقها ومغربها . وهذه الظاهرة ليست جديدة بحد ذاتها، لكن الجديد فيها هو شدة تطرّفها، وارتباطها بالغلو وتكفير المجتمع، والتصاقها بالأساليب البربرية والهمجية، من قطع الرؤوس وسبي النساء والتهجير الجماعي .
هذا العنف الدموي البربري، يشير في أحد مدلولاته إلى انكفاء كبير في تيار قوى الوسطية الفكرية في الوطن العربي، بمختلف راياتها ومشاربها الأيديولوجية . فالساحة العربية ما كان لها أن تستباح على هذا النحو المريع من قبل قوى تكفيرية، همجية وغاشمة، لو أن قوى الوسطية الفكرية والثقافية قد نهضت بدورها على النحو الكامل والصحيح .
وعلى الرغم من ذلك، فإن الوقت لم يفت تماماً . ولا تزال هناك فرصة لتأكيد رؤية ثقافية وسطية، حضارية ونهضوية .
إن الوسطية الثقافية هي المفهوم المقابل للتطرّف، بالمدلول الكلي للمصطلح . والوسطية الثقافية، بهذا المعنى، تجسد استقامة الفرد والمجتمع، وتؤشر إلى تطوّر وعيه، وبلوغه مرحلة الرشد والنضوج .
ولا تشير الوسطية الثقافية إلى مجرد خيار فكري مؤطر زمنياً، بل هي عملية تفاعلية طويلة الأمد، تتصف بالتواصل والاستقامة، وتشكل مدخلات للسلوك .
في المقابل، يُمكن النظر إلى التطرف والجنوح، باعتباره اضطراباً للقوام النفسي والفكري لدى الفرد، يستتبعه في الغالب اضطراب في الفعل والأداء .
وهذا الاضطراب من شأنه، متى حدث، أن يدفع باتجاه تأزيم مسار التفاعلات الاجتماعية والثقافية، في الحيز الوطني والقومي، ومنع تطور هذه التفاعلات تطوراً بناءً وخلاقاً، قادراً على خدمة المجتمع وتحقيق تطلعاته .
ويُعبر التطرف والجنوح الفكري والمسلكي عن نفسه في صور وتجليات شتى، منها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو سياسي . وبالضرورة ما هو أمني أيضاً . وعند هذه النقطة تحديداً، نصل إلى قضية العنف السياسي، المستند إلى تطرف وجنوح فكري، رؤيوي أو أيديولوجي .
هذا العنف، ذو الحاضنة الفكرية الجانحة، يفرض من التحديات ما يفوق كثيراً العنف السياسي في سياقه التقليدي المعهود . نحن هنا، بصدد عنف ينطلق من تكفير الدولة والمجتمع، وإلغاء الآخر السياسي والثقافي، واعتباره هدفاً لكل أنواع البطش والتنكيل .
في الأصل، فإنّ نمو ظاهرة العنف لدى الأفراد يعود، في أحد أبعاده الأساسية، إلى ثقافة الأنا وإقصاء الآخر . وتجد هذه الظاهرة جذورها الأكثر عمقاً في التنشئة الأولى، البعيدة عن حب الآخرين واحترامهم . كما يجد العنف جذوره في منظومة بنيوية متصلة من المعطيات الاجتماعية .
والعنف ليس له هوية دينية أو وطنية، ذلك أن جوهره يتناقض بالضرورة مع فلسفة الدين، كما الوطن الجامع والأمة الواحدة . اليوم، تشهد ساحتنا العربية صوراً مروعة من الإرهاب التكفيري، الذي ذهب ضحيته آلاف المدنيين، وخاصة في العراق، الذي سقطت مساحات كبيرة من أراضيه في أيدي الجماعات التكفيرية المتطرفة .
وما يحدث في العراق، يحدث أيضاً في سيناء، وشمال شرق سوريا، وتونس وأقاليم عربية أخرى .
إن الإرهاب التكفيري بات خطراً مشتركاً على البلاد العربية، ويخطئ كثيراً من يعتقد أنه في منأى عن عواقبه وتداعياته، المدمرة للدول والمجتمعات .
وبالطبع، ليس اليوم وقت الحديث عن إجراءات وقائية مجردة، لأن الخطر قد وقع، وفعل فعله في الأمة .
لابد من منظومة متكاملة من الإجراءات، الثقافية والسياسية والأمنية، تتصدى سوية للظاهرة ومفاعيلها .
ومتى أكد المسلمون على مبدأ الوحدة والألفة فيما بينهم، وسادتهم الروح المتآخية، فإنهم يغدون قادرين على التعايش مع الآخر الديني .
بعد ذلك، فإن إحدى المهام الأكثر إلحاحاً على القوى المتنورة في الوطن العربي تتمثل في بناء جيل يعترف فيه الفرد بالآخر، ويقر بحقه في الاختلاف . وقديماً، قال الفلاسفة إن الاعتراف بالآخر يشكل الطريقة المثلى للتعرف إلى الذات والاعتراف بها . والاعتراف بالذات وحده يسمح بولوج طريق قبول الآخر . وقبول الآخر وحده السبيل لتحقيق التعايش الأهلي .
وإن نهوض أية مسيرة إنسانية يستلزم بالضرورة التعايش بين أولئك المعنيين بها، بحيث يُمكنها أن تصبح قادرة على إنتاج علاقات متوازنة، لا تقلّص الآخر إلى مجرد مكانته الاجتماعية، أو هويته الدينية، ذلك أن رؤية الآخر على أساس اختلافه تشكل الخطوة الأولى في مسيرة تهميشه واستبعاده، لذلك يغدو قبول الآخر بمثابة حجر الزاوية لتأمين علاقات سليمة وصحية بين أبناء المجتمع .
إن ما يدور اليوم في سيناء والرقة والموصل، وما حدث في عرسال اللبنانية، يشير بوضوح لا لبس فيه إلى أن الفكر الجانح المتطرف هو أقصر الطرق لهدم الأوطان، وتدمير مكتسبات الأمم . وأن هذا الفكر لا يرمي بتداعياته على فئة دون أخرى، بل إن المجتمع بأكمله يغدو ضحية كبيرة له .
إن الوطن العربي هو اليوم في أسوأ حالاته على هذا الصعيد، وإن الأجيال العربية الراهنة لم تشهد قط مشاهد قطع الرؤوس، التي أضحت تردها من سيناء والرقة والموصل وجرود عرسال، ومناطق أخرى في بلاد العرب .
هذا الوقع يجب أن يتصدى له المؤمنون بالوسطية الثقافية، ودعاة التعايش الأهلي، والمتمسكون بالوحدة الدينية والقومية الجامعة .
وإذا كان المثقف العربي لا يملك اليوم الكثير من أدوات التأثير السياسي، فإنه معني، في الحد الأدنى، برفع صوته عالياً ضد هذه الهجمة البربرية، التي تستهدف الأمة وحضارتها . إنه مطالب بتعرية الفكر التكفيري الذي يستبيح الأعراض والدماء، ويدمر الحرث والنسل .
على الطليعة الواعية أن تضع ثقلها خلف رؤية صحيحة للدين والمجتمع، تكون بديلاً للفكر الظلامي المتزمت، المعادي لنهضة العرب وتطوّرهم .
إن الإجراءات السياسية والأمنية يجب أن تكون مكملة وحسب لدور المثقف وأصحاب الفكر النهضوي، وهي لا يُمكن أن تأتي بنتائجها المرجوة إن جلس المثقفون في أبراجهم العاجية، يتفرجون على ذبح الرجال وسبي النساء، على أيدي شذاذ الآفاق، من الزمر التكفيرية الهمجية، المتكالبة على هذه الأمة .


عبدالجليل المرهون

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"