صور رؤساء متحرّكة

04:41 صباحا
قراءة 4 دقائق

كيف يجيب التاريخ عن مجموعات لا تنتهي من الأسئلة والأحداث المهمّة الكبرى التي تهزّ الشرق الأوسط؟ بل كيف نشرح لأجيالنا المقبلة ماضينا أو حاضرنا الذي يخطف انتباه العالم ويزرع شهيته ورغباته أبدياً في هذه الأجزاء من حقولنا العربية والإسلامية التي قد تفجّر حرباً عالمية ثالثة؟ قد يتصوّر المرء للحظة وهو يتجول بناظره بين مصر وسوريا تحديداً والعواصم العربية المجروحة أو المرتجفة الأخرى التي لا داعي لتكرارها مع كلّ نص، أن ما يحصل حقيقة، هو طبعة من طبعات الحروب العالمية، لكنها طبعة معاصرة، تتكشّف مفاصلها ومراميها ومطابخها حبّةً حبة ونقطة نقطة، تماماً كما تظهر الصور المتدفّقة أمامنا في الشاشات بعد أن تتآلف النقاط الهندسية التي تتشكّل منها وتتلون وتظهر الحقائق وظلالها المخفية .

صور لا تنتهي من الخرائب والدماء والحروب المتشابهة التي تملأ أمكنة العرب وأزمانهم، لن تقوى حدقات الأرض على رصدها كلّها أو التقاطها، لكنّ مؤسسات الإعلام قادرة أن تعبّ من هذا المحيط الأحمر المحروق والمبعثر ما تشاء من الصور واللقطات التي قد توحي عند إبرازها أنّها في أي عاصمة من عواصمنا المتشابهة المجروحة . لقد أشبعت العيون العربية بصور الخرائب وباتت تألف الدماء أو تأنفها ولكنها ستنصاع إلى ألفتها . وهنا ملاحظة مهمّة: قد يحصل بالنسبة لمعظم نساء العرب وأطفالهن الابتعاد الحاسم والمقصود في تعبئة الليالي عن كلّ ما هو خارج دائرة العرب من صور ومناظر دموية وقتل وتنكيل ووحشية تقتل الحاضر وتدميه، وتشوّه القيم والأديان والمثل، وتزرع الأمراض النفسية والاكتئاب في مستقبل الأجيال . فالحروب كيفما كانت لا ترصد بمناظرها الآنية، لكن بما تورثه، في المستقبل الطويل القادم، على المستويات كلّها ليست الاقتصادية ولا العمرانية بل الاجتماعية والنفسية والتربوية . فالضرب والقصف لا يدكّ المدن وحسب، بل يدكّ البنى النفسية والوطنية والقومية ووحدة العرب ويضاعف من تدهور شعوبهم وتصدّع أجيالهم الهاربة نحو الأرصفة العالمية والفقر والنقمات التي لا يمكن أن تؤدّي سوى الى التطرف العالمي . ما زلنا في بداية الطريق كي ندرك ماذا جنى العرب من تنافرهم وتشظياتهم وتقاتلهم الذي لطلما جهدت إسرائيل في تغذيته . ولهذا مباحث طويلة .

لكنّ صوراً أربعاً تقفز بك الى الخيال تجعلك مأخوذاً بين أربع صور لرؤساء مصريين: صورتان لرئيسين مصريين في السجن وصورتان لرئيسين قتلا لكنهما يسكنان الذاكرة العربية . الأولى صورة محمّد مرسي المخفيّة المتخيّلة في الإقامة الجبرية تختصر فشل تجربة الإخوان المسلمين التي لفظتها مصر كما لفظها العرب بقوّة، وهي ما زالت ترشح دماً وفوضى وتخلّف الكثير من الندوب والانقسامات، والثانية صورة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك بوجهيها: الأوّل عندما ثار المصريون في وجهه في 25 يناير 2012 وأسقطوه في 11 فبراير/ شباط . يومذاك وضع العالم قلبه فوق يدي مصر لا خوفاً عليها ولا خوفاً على العرب أو الشرق الأوسط بل خوفاً على اتفاقيات الاستسلام المنفرد، وخوفاً على العدو الإسرائيلي ومستقبل علاقاته مع المحيط . أمّا الوجه الثاني فيطلّ من وراء القضبان ونظارتيه السوداوين، من وقتٍ الى آخر، وهي قد تلوي في الكثيرين منّا قسطاً وافراً من عزّة النفس فتستمطر الرحمة لا في ما يسمّى بأهل السلطان، بل في ما يندرج في أهل الشيخوخة والعجز الذين يفرض منظرهم الصفح والرحمة، لأنّ من خلقهم يفتح أبوابه لحسابهم جميعاً، هذا إن لم نتغاضَ عن الأصوات المصرية والعربية الكثيرة التي راحت تترحّم على عهد مبارك ما إن أطلّ عهد مرسي . يمكن أن نوضّب هاتين الصورتين بصورة القضاء المصري المتقدّمة التي قد يشتهي الكثيرون منّا تعميمها في بلادهم .

لكن أي عربي لا يعود به خياله الى 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977 أي الى استرجاع الصورة الثالثة أو صورة محمد أنور السادات، يوم قيامه بزيارة العدو الإسرائيلي، ومنها تكرّ الصور والأسئلة : السادات في إسرائيل . السادات رئيس الأمة أو رئيس أكبر دولة عربية في الكنيست خطيباً . السادات مع بيغن وغولدا مائير . السادات يوقّع وحيداً اتفاقية كامب دايفيد . مستقبل الصمود والتصدّي . لماذا تبدو هذه البحيرة البيضاوية التي اسمها البحر الأبيض المتوسط مرتعاً للأنظمة العسكرية؟ مصر أين أنتِ؟ أين جيشك؟ أين شعبك؟ كيف يتركون السادات يفعل بهم وبالعرب جميعاً ما فعل؟ كيف تصفع فلسطين من زند القاهرة التي يفترض أن تحميها، وهل بقي هناك من مطرح في جسدها قابل لتلقّي الصفعات والطعنات؟ هل يعقل أن تكون مصر صاحبة التمزّق العربي الأول؟ بل كيف نصدّق أن السلطات المصرية كانت قد أجرت استفتاءً شعبياً، وجاءت نتيجته المزوّرة بالطبع، تقول بأن 99 بالمئة من المصريين يؤيدون سياسة السادات كما معاهدة السلام مع إسرائيل؟ يومها قطع عرب الصمود والتصدي شعرة معاوية مع مصر، هذه الشعرة التي يمكننا اعتبارها رمز الدبلوماسية الأولى واللياقة في الاجتماع والتواصل وحسن الإقناع والمخاطبة والتعامل مع الآخر . تلك كانت وما زالت صورة محفورة في ذاكرة العرب وتاريخهم المعاصر .

لكن من ينكر اليوم أنّه لا يسترجع بالطبع الصورة الرابعة الخالدة لجمال عبدالناصر التي حاول محمد مرسي طمسها كليّاً أو محو معالمها، والتي ترمز بالنسبة للكثير من الأجيال العربية، إن لم يكن لأكثرها، نوعاً من الحنين النرجسي إلى الصوت العالي الجريء العربي يتلمّس الذات وقوتها عبر عرق العمّال المصريين الذين حفروا قناة السويس وأبطال بور سعيد وأبطال العبور وكل فلاح مصري ارتجفت يداه عند خط بارليف . هو تاريخ عامر بالروح البطولية التي يختزنها تاريخ مصر وشعب مصر، كما تواريخ تلك الأجيال وطموحاتها .

قد تنغرز العينان في المشهد وتروح الى صورة الهيروغليفية أو صورة الأهرامات وهي ما زالت عالماً حافلاً بالألغاز الهندسية التي تذهب الى حدّ القول إنّها مجسمات هائلة ربّما هبطت من سكّان كواكب أخرى بنوها فوق أرض مصر لدمغ عظمتها وغادروا .

تسقط صور الرؤساء المتناقضة الكثيرة، لكنّ السؤال العربي الواحد إياه كان وسيبقى قائماً أمام من يحكم مصر: مصر أين أنتِ؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"