فشل حصار كوبا

04:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول
بعض المبادرات تدخل التاريخ من لحظة النطق بها، بغض النظر عن مصيرها وتفاصيل مآلاتها . في هذا النطاق يمكن إدراج تصريح الرئيس الأمريكي باراك أوباما حول إعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، بعد أكثر من نصف قرن من القطيعة والحصار الأمريكي الظالم على الجزيرة الأقرب إلى الشاطئ الأمريكي . ويحضر التاريخ في هذه المبادرة بوجوه متعددة، فمن كوبا كاد العالم يختفي بحرب نووية، جراء أزمة الصواريخ السوفييتية الشهيرة عام ،1961 فكانت الجزيرة رمزاً من رموز الحرب الباردة والمحطة الأصعب من محطاتها . ومن كوبا انطلقت شرارة حروب العصابات ضد الأنظمة الموالية لواشنطن في أمريكا اللاتينية . ومن كوبا خرج تشي غيفارا، أيقونة ثوار العالم الثالث، وواحد من أهم رسل الثورات على الظلم وطلب العدالة الاجتماعية، ومن كوبا خرج "شعار الوطن أو الموت"، ومن ثم "الكرامة أو الموت"، ليتحول إلى أمثولة ترددها جماعات فخورة هنا وهناك في مختلف أنحاء العالم، وكوبا رغم تواضع حجمها لم تقتلها الحرب الباردة لا خلال اندلاعها ولا بعد انهيارها . باختصار شديد يمكن القول إن حديث أوباما عن عودة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا يعني في أحد وجوهه على الأقل انتصاراً لخمسين عاماً من الصمود الكوبي . لكن كيف ولماذا تم هذا الإعلان وما هي دوافعه؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء، أي إلى القطيعة، فكيف ولماذا تمت؟
في العام 1961 كانت الثورة الكوبية في عز انتصارها على نظام باتيستا الديكتاتور الموالي للولايات المتحدة الأمريكية، وتحولت إلى قاعدة جذابة لشعوب أمريكا اللاتينية الراغبة من التخلص من هيمنة واشنطن، في هذا الوقت قررت الولايات المتحدة إسقاط النظام الكوبي عبر إنزال مجموعات مسلحة في خليج الخنازير، فكان أن سقطت المجموعة في كمين الجيش النظامي الكوبي، وقضي عليها خلال ثلاثة أيام وسقط في الأسر ما تبقى منها، الأمر الذي تسبب في أزمة مفتوحة بين البلدين عززها نشر صواريخ استراتيجية سوفييتية في الجزيرة، رداً على صواريخ أمريكية مماثلة في تركيا والشرق الأوسط، وانتهت الأزمة بسحب صواريخ الطرفين وبقطيعة دبلوماسية أعلنها الرئيس جون كنيدي ضد الجزيرة الثورية، معطوفة على حصار اقتصادي خانق ما زال مستمراً حتى اليوم، فضلاً عن تهديد عسكري مباشر عبر قاعدة أمريكية في غوانتانامو، وهي منطقة تحتلها الولايات المتحدة داخل كوبا منذ العام 1902 .
ما من شك في أن نصف قرن من الحصار قد تسبب في معاناة جسيمة للكوبيين على كل صعيد، وبخاصة بعد نهاية الحرب الباردة، وحرمان كوبا من المساعدات السوفييتية، لكنه لم ينجح في تحطيم إرادة الكوبيين في الدفاع عن أنفسهم، وعدم الرضوخ لليانكي الذي حول الجزيرة قبل الثورة عام 1959 إلى "ماخور" بالمعنى الحرفي للكلمة، بعد أن سيطر على تجارتها الداخلية والخارجية، وصار يعين الحكام فيها للإشراف على هذه السيطرة وحمايتها من كل تغيير .
اليوم يشعر الكوبيون بالفخر جراء تراجع الولايات المتحدة عن سياسة المقاطعة، وربما أيضاً عن الحصار الاقتصادي، والراجح أن هذا التراجع ناجم عن جملة من الأسباب، أبرزها الرهانات الشخصية لراؤول كاسترو وباراك أوباما، فالرئيس الأمريكي يريد دخول التاريخ عبر هذه الخطوة فيصبح الوجه الآخر للرئيس الرمزي جون كنيدي الذي رسم القطيعة مع هذا البلد، أما راؤول كاسترو، فقد بلغ 85 عاماً ومن المفترض أن يسلم الحكم بعد 3 سنوات، وقد اختار لهذه الغاية شاباً خمسينياً لنيابته ميكاييل دياز، ويراهن على تسليمه حكماً بلا حصار وفرصة لبقاء النظام الكوبي بشروط أفضل .
والسبب الثاني يتمثل برغبة أمريكية في المصالحة مع أمريكا اللاتينية التي صارت قاعدة لتيار خلاصي من الهيمنة الشمالية والمصالحة الأمريكية مع كوبا ،هي في أحد وجوهها مصالحة مع اللاتينيين . والسبب الآخر يتعلق بالقمة التي ستعقد في إبريل/ نيسان المقبل بين الأمريكيتين والتي لا تريد واشنطن أن تكون معزولة فيها، كما حصل في السابق، خصوصاً بعد اشتراط فنزويلا وبوليفيا إنهاء الحصار على كوبا تحت طائلة المقاطعة، وكان من المنتظر أن تنضم دول أخرى إلى هذا الشرط، وهناك سبب آخر يتعلق بضغوط من لوبيات داخلية أمريكية تريد إنهاء القطيعة، وبعضها يراهن على أرباح اقتصادية، معتبرة خصوصاً بعد الانفتاح الذي شقه كاسترو في إتاحة الاستثمارات للقطاع الخاص، والسبب الخامس نفطي ذلك أن أمريكا والمكسيك وكوبا مضطرة لتخطيط حدودها البحرية من أجل الإفادة من مصادر الطاقة الكامنة في مناطق الحدود، وتأمل واشنطن الحصول على آبار نفطية مهمة في سياق هذا التخطيط، والسبب السادس يتصل بالرهانات الكوبية على الانفتاح ضمن النظام وليس ضده، فقد أعلن كاسترو أن المصالحة مع أمريكا لن تأتي بالتعددية السياسية في السلطة، وأن الحكم سيبقى للحزب الشيوعي الكوبي المنفتح والمستفيد من اقتصاد السوق بشروطه وليس بشروط السوق . والمعروف أن كوبا تضم أكثر من 5 ملايين موظف من أصل 11 مليوناً من سكانها الأصليين، ما يعني أن نصف الشعب تقريباً يستفيد من النظام ويمكن أن يدافع عنه بوسائل أفضل، إذا ما أدت المصالحة مع واشنطن إلى تسهيل تحويلات الكوبيين من الخارج إلى أهلهم في كوبا، وإلى إنعاش القطاع السياحي الكوبي الذي يعد المصدر الثالث لدخل الجزيرة، وإلى اكتشافات نفطية تعين كوبا في التعويض عن هبات النفط الفنزويلية التي انقطعت بعد وفاة هوغو تشافيز، فضلاً عن تحديث كوبا التي تحتاج دائماً إلى استيراد التكنولوجيا الغربية والأمريكية لمجمل هذه الأسباب، ولربما لغيرها ينعطف التاريخ في كوبا وتخرج الجزيرة التي رفض أهلها بيعها مراراً لليانكي في القرن التاسع عشر بشروطها، مرفوعة الرأس من بين أنياب الوحش الأمريكي الذي اكتشف بعد نصف قرن أنها عصية على الهضم .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"