في باريس.. مع «سلطان الثقافة»

02:56 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

في حضرة باريس، تتراجع في النفس الجوانية، السياسة وهمومها وألعابها، وتحضر الثقافة بمذاقها الشهي، الذي يشفي الروح، ويرمم انكساراتها. تحضر الثقافة، فتنفتح النوافذ والأبواب على مصراعيها، وتختفي جُدُر، وتصحح صور نمطية عن الآخر، سكنت طويلاً في الذاكرة الجمعية.
باريس.. ذات مذاق خاص، ما إن تطأ شوارعها، ومتاحفها، حتى تهب عليك رائحتها التاريخية المميزة، وتفتح لك خزائن أسرارها، وتكتشف أن سرَّها الأول، هو أن تكون عاشقاً لها، ومغرماً بإيقاعها الثقافي والتنويري، الذي يضاعف من حماسة البشر لعشق الحياة والحريّة والجمال، وتقدير الإبداع.
تدعوك باريس، في صباحاتها الشتوية المنعشة، بأن لا تقرأ التاريخ، بنظرة «التاريخ العبء»، وإنما بنظرة «التاريخ الحافز»، وتذكرك بفيلسوفها المتمرد فولتير، وبحملته الشعواء على الاستبداد والتعصب الديني، وبسجنه في الباستيل، وبالاعتذار له بعد موته، ونقل رفاته بعد الثورة الفرنسية إلى مقبرة العظماء (البانثيون) بباريس.
في باريس، وأمام قوس النصر، يحضر من الذاكرة، الكثير من الفلاسفة والكتاب والفنانين، وعظماء: ديجول (صاحب سلام الشجعان في الجزائر).
وصغار «لا تستحي أن تشتمهم»، وآخرون، ممن تخجل فرنسا من كذبهم وفسادهم، وبناؤون نهضويون، من أمثال؛ البارون هوسمان، محافظ باريس في منتصف القرن التاسع عشر، الذي غيّر وسط باريس، الذي كان مليئاً بالأوحال والفقر والبؤس، وبنى هذه العمارة المميزة الجميلة، بشوارعها ومتاحفها وبيوت فنونها، وقدم باريس للعصر الحديث، والذي استعان به الخديوي إسماعيل في مصر، كي يبني وسط القاهرة، وفق الأنموذج المعماري الباريسي.
في باريس.. ومنذ أيام، نعيد اكتشاف ثمار البذرة الطيبة، التي غرسها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، منذ أكثر من أربعة عقود، في إطار مشروعه الثقافي التنويري والتعليمي والأخلاقي، حيث لا يكتفي فيه، بالدعم والرعاية، وإنما أيضا بصناعة الفعل الثقافي الإبداعي، وتجويده، ونشره، وشق طريق «الحرير الثقافي» المعاصر، إلى خارج الحدود، باتجاه الآخر، في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتقديم ثقافة الإمارات، وآدابها وأدبائها وكتّابها وفنونها وتراثها، إلى عاصمة الأنوار باريس.
وفي معرض باريس للكتاب الذي استقبل الشارقة، بحفاوة رسمية وشعبية، وتفاعل مثمر، وكضيف مميز. حضرت الشارقة، المبتسمة بالأمل والطموح والمعرفة، والتوق إلى الأبهى والأجمل، حاملة شعار «لتعارفوا»، والمشترك الإنساني، ورسالة الكتاب والشعر والرواية والمسرح والحداثة الإماراتية، ربما لاحظ الجمهور الفرنسي، أن الحضور المعنوي والمادي للمرأة الإماراتية في ساحة الإبداع الثقافي، في المعرض، كان كبيراً وجميلاً، وقبل ذلك وبعده، الحضور الشخصي لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان وسمو الشيخة جواهر، والشيخة بدور، لفعاليات المعرض، وحوارات سموه مع الكثيرين من أدباء وكتاب الإمارات، الذين شاركوا بإبداعاتهم الثقافية والفكرية، وبكتبهم المترجمة إلى اللغة الفرنسية.
في معرض باريس للكتاب، حضرت الإمارات، ممثلة بأكثر من خمسين كاتباً ومفكراً وإعلامياً وأديباً وفناناً، حضر التراث والموسيقى والشعر والنثر والمسرح والرواية والفن التشكيلي والفولكلور، ورفقة طيبة وتألق، واحتفينا بمئوية القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد، واستمعنا لوزير ثقافة فرنسي سابق، وقال كلاماً طيباً عن مآثر زايد، وأدواره الإنسانية.
أدارت الشارقة، من خلال هذه النخبة الإماراتية والعربية المبدعة، التي اصطحبها «سلطان الثقافة معه، حوارات مفيدة مع نخب وجمهور فرنسي، في أروقة المعرض، واستوديوهات إعلامية، وفي حديقة (برج ايفيل)، وأوبرا باريس، وأمام كاتدرائية (مون مارتر)، وفي ردهات معهد العالم العربي، وأمضى الرئيس الفرنسي ماكرون، بعض الوقت، في جناح الشارقة، وفي قاعة مبهرة من قاعات دار الأوبرا.
وقّع «سلطان الثقافة» عدداً من كتبه المترجمة للفرنسية، بحضور (جان رافاران) رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق. وفي باريس برزت روح إبداعية، ومشاعر إنسانية مشتعلة، نبلاً وألفة، وحرصاً على تقديم الدولة الاتحادية الإماراتية، عائلة ثقافية متلاحمة، واثقة من نفسها، أهل قلم وريشة ونغم جميل، وفريق منظم ديناميكي، من كافة الإدارات الثقافية العاملة في فضاءات «سلطان الثقافة»، وجهود عظيمة في الإعداد والحركة والتنظيم، من قبل هيئة الشارقة للكتاب.
خطوة مهمة وحضارية، من بعض صناعة الثقافة في الشارقة، وبإطلاقها للأدب والثقافة الإماراتية، بخصائصها المحلية والعربية، نحو العالمية، بدءاً من باريس، ومروراً بسان باولو، وعواصم عالمية أخرى، وصولاً إلى عام 2019، حينما تتوج «اليونيسكو»، الشارقة عاصمة عالمية للكتاب.
في باريس، حظيت برفقة قامة فكرية وثقافية، نفاخر بها، قامة وطنية وأخلاقية، مستغرقة في مفردات منظومة ثقافية طموحة، تقود تياراً تنويرياً من أبناء وبنات الإمارات، ومن كتاب عرب ممن خدموا الكلمة والثقافة في الإمارات، وجيلاً شاباً مبدعاً، يملك وعياً جمالياً وحساساً، عرفتهم في باريس، تفاعلوا بشكل حضاري مع الحدث، واستدعوا الصحراء والبحر والنخيل، وسردوا روايات تسافر إلى المستقبل، وتذكروا السياب والديار والحب الصوفي، ونثروا غوايات أشعار تكمن فيها أسرار البوح، وهمسوا في أذن المونوليزا.
في باريس.. استنشقنا هواء شتائها البارد المنعش، وعشنا ساعات ممتعة من الحوار مع «سلطان الثقافة»، يشاركنا فيها مسرات الثقافة، وهموم الأخرى (التي لا تسمى)، ودوماً ما يضيف الجديد، إلى المشهد الثقافي الإبداعي والمعرفي، وليجعل حياتنا أقل قلقاً، وأكثر أملاً وجمالاً، وبما يعزز انتماءنا الإنساني، وقيم التسامح والتعارف والتفاهم مع الآخر.
السياسات الدبلوماسية، تستطيع أن تصنع التحالفات بين الأمم والدول، كما تستطيع السياسات الاقتصادية والتجارية أن تبني الشراكات والشركاء، لكن السياسات الثقافية والتفاعلات الثقافية هي القادرة على خلق الأصدقاء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"