كيف نفهم أمريكا؟

02:58 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

أمريكا بحاجة إلى فهم وإدراك عميقين، هي أخطر من ألاَّ نعرف كنهها، أو نترك فهمها لصور وانطباعات عابرة أو شائعة. فهمها ضرورة ملحة، فهم طبيعة سياساتها وأساليبها ودوافعها ونظامها السياسي والحزبي والتشريعي؛ فهم التركيبة الذهنية والنفسية والأخلاقية لمجتمعاتها في ولاياتها المتنوعة، والمتغيرات الديموغرافية في هذه الولايات، فهم دور الرئيس، سواء كان مثقفاً أو حقوقياً أو ممثلاً سينمائياً أو عسكرياً أو تاجراً للفستق يقرأ الإنجيل ليلاً قبيل نومه، أو رجل أعمال متخصصاً في النوادي الليلية، أو يكره النساء إلى درجة التحرش بهن.. إلخ.
مثل هؤلاء الرؤساء، سكن البيت الأبيض، وجلس في المكتب البيضاوي لسنين معدودة ومحددة، وقرأ العبارة المكتوبة فوق المدخنة (المدفأة) في قاعة الطعام الرئيسة في البيت الأبيض، والتي نصها: «أدعو السماء أن تمنح بركتها لهذا البيت، ولجميع الذين يعيشون فيه، والشخص الذي يحكم تحت سقفه، لن يكون سوى رجل شريف وحكيم».
أمريكا بلد محظوظ، لديه وفرة هائلة من الجغرافيا والموارد والقوة، أكثر شباباً وديناميكية من غيره، وأجرأ في إعادة النظر في مساراته، خالياً من أثقال التاريخ وأعباء التراث وحساسياته، لا يقف أمام الماضي، جاءه مغامرون ومنفيّون ومضطهدون، وظل منطق الأمريكي هو البدء من جديد، وأن كل الحقائق والحقوق تبدأ الآن. اللحظة الراهنة هي كل شيء، وكل العوائق أمامه يجب أن تزول، بشراً أو حجراً أوغابة، والتطلع إلى المستقبل واقتناص الفرص والصفقات والمصالح هي «مربط الفرس»، لا مانع من قتل أو إلغاء سكان أصليين (هنود حمر)، لا موانع أمام «استيطان» الأرض، ومن يستوطنها ويحييها هو الأحق بملكيتها، مالك الأرض الحقيقي والقانوني ليس هو من يمتلك سند الملكية، وإنما هو الذي يمسك بها بقوة، لا مكان للحقوق التاريخية والأخلاقية، لا مكان للصداقات التقليدية، أوروبا الحليف الأول، عجوز وينبغي لها أن تتغير، وشاه إيران المعيّن من قبل أمريكا شرطياً للخليج، لا تسمح له بدخول أمريكا، حتى للعلاج في لحظة سقوط نظامه، كل شيء خاضع للبيع والشراء، من لحظة شراء، جزيرة مانهاتن في قلب نيويورك، من شركة هولندية، مروراً بشراء ولاية كاليفورنيا من إسبانيا، وولاية لويزيانا من فرنسا، وولاية ألاسكا من روسيا القيصرية، وحتى«شراء ما سمي بالسلام» في الشرق الأوسط، بحزمة مساعدات مالية سنوية إلى مصر و«إسرائيل»، وما أساليب «الظاهرة الترامبية» وسياساتها وخطابها الفج تجاه العرب والقدس والاحتلال الاستيطاني، إلا نماذج لهذه الذهنية؛ ذهنية الصفقات وغرور القوة، والابتزاز والبيع والشراء.
رقصت مع ملالي إيران ومع جماعات إرهابية، و«أذّنت» في كابول، وخلقت «القاعدة» ورعت «الجهادية» الممسوخة، وراهنت على «جماعات إسلاموية» لإدارة حكم الشرق الأوسط، بما فيه تركيا العثمانية الجديدة، ووقعت فجأة في «حب» عابر مع كوريا الشمالية، وتمردت على نظام دولي أسهمت في توليده.. ووضعت العالم أمام كوابيس حروب تجارية وإلكترونية وفضائية وفوضى، في وقت يحتاج العالم فيه إلى استقرار وتعاون لمواجهة مخاطر بيئية وأزمات مائية وغذائية وسباقات تسلح، وهدر في الإمكانيات وجوع وفقر وكراهية جماعية، وإرهاب عابر للحدود الدولية، وصعود شعبويات انعزالية وعنصرية في أكثر من بلد في العالم.
ولم يرفّ للظاهرة «الترامبية» جفن حينما ضحكت الجمعية العامة للأمم المتحدة سخرية من خطاب سيد البيت الأبيض، ويذكر التاريخ أن أعضاء الجمعية العامة لم يسخروا ضاحكين يوماً، أمام خطاب رؤساء العالم منذ تأسيس الأمم المتحدة، وحتى حينما خلع الرئيس السوفييتي الأسبق خروتشوف حذاءه، وضرب به طاولة اجتماعات الجمعية العامة في مطلع الستينات، ولا حينما مزق القذافي نسخة من ميثاق الأمم المتحدة.. إلخ.
العقلية الأمريكية السائدة منذ قرنين ونصف القرن، مستعدة دائماً أن تتقدم لأي مشكلة في العالم بمقترحات لإدارتها، لكنها في معظمها غير محكومة بثوابت أو بحقوق تاريخية أو إنسانية، وعلى سبيل المثال، قدمت شركة أمريكية مشهورة مشورتها قبل عقود، إلى المملكة العربية السعودية لمعالجة أزمة الازدحام في موسم الحج، واقترحت أن يجري الحج مرتين في العام! بدلاً من مرة واحدة، كما قدم الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون مقترحاً للفلسطينيين مفاده: إطلاق اسم القدس على مدينة فلسطينية أخرى، كما اقترح حلاً لما يسمى بالهيكل اليهودي، من خلال بنائه فوق أعمدة مرتفعة وسط ساحة الحرم المقدسي، مبرراً ذلك بأن الهيكل سيبنى في الهواء وليس على الأرض، وأن الفلسطينيين سيحصلون على شيء من رسوم الزائرين والسياحة الدينية.
كل شيء خاضع للمساومة والبيع والشراء، ولنظرية المصالح أساليب ووسائل ابتزاز مبتكرة، ولا حسابات أخرى للخطابات والسياسات الأمريكية، سوى الرأي العام الشعبوي الأمريكي، لا تعنيها المجتمعات المحلية الخارجية ولا انعكاسات هذه الخطابات الاستفزازية على هذه المجتمعات واستقرارها وازدهارها.
الظاهرة «الترامبية»، ظاهر فاقعة في الفظاظة والفجاجة والنزق، أنتجتها ظروف وأوضاع أمريكية معروفة؛ يمين إنجيلي أصولي متطرف مؤمن برؤية أسطورية تنتظر حرباً كونية (هرماجادون) بين «الخير والشر»، وضجر شعبي من نخب سياسية حاكمة في أمريكا، وغاضبون بيض في ولايات الجنوب وأرياف ولايات أخرى.
ظاهرة فيها الكثير من العنجهية والسوقية، تسببت في إحداث خلل في معايير وآداب الرئاسة والدبلوماسية وإرباك لأصدقاء تقليديين لأمريكا في أوروبا والشرق الأوسط.
قبل وبعد «الترامبية» نحتاج إلى فهم جديد، وإدراك رشيد لهذه «الأمريكا»؛ لأنها أكبر وأخطر من ألاَّ نفهمها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"