لبنان.. أزمة نظام أم أزمة حكومة؟

05:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
علي جرادات

منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، يحتشد في ميادين لبنان من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه نحو 1.2 مليون مُتظاهر من أصل 4.5 مليون هو عدد السكان. ويلفت الانتباه، هنا، أن معظم هؤلاء المتظاهرين من الجيل الشاب، ومن جميع الطوائف والمذاهب والأحزاب، وأنهم لا يرفعون سوى راية الوطن، ولا ينشدون سوى النشيد الوطني: (كلنا للوطن، للعلا للعلم..)، وما أحرقوا سوى العلميْن الأمريكي و«الإسرائيلي»، بينما لم يستجيبوا لورقة الحكومة «الإصلاحية»، رغم أنها تلبي بعض مطالبهم، بل ورفعوا سقف مطالبهم المعيشية والحياتية إلى الدعوة لإسقاط الحكومة تارة، والنظام تارة، وإلى رحيل جميع مسؤولي الدولة، (كلّن يعني كلّن).
هنا ثمة حدث سياسي لبناني كبير، بل تاريخي ينطوي على دلالات كبيرة، أولاها أنه يعبر عن احتقان شعبي مزمن، وعن أوجاع شعبية قاسية ومؤلمة، وثانيتها أنه حتى وإن عفوياً، ولم ينبثق عنه، حتى الآن، قيادة موحدة، ولم يُبلور لا برنامجاً واضحاً، ولا شعاراً ناظماً، إلا أنه ليس هبّة قابلة للانطفاء بسرعة، بل يحمل ملامح انتفاضية فعلية لناحية استمراريته، وطابعه الشعبي الواسع، وشموله لجميع المناطق اللبنانية، ما يجعل ما بعده غير ما قبله، وبكل المعاني. وثالثتها أن محركاته لا تتعلق بأزمة الحكومة القائمة، أو العهد القائم، بل بأزمة نظام حُكْمٍ عفى عليه الزمن. ورابعتها، أنه يشي بأن كيل الشعب اللبناني قد طفح، وأن صبره قد نفد، وبالتالي، فإن التشخيص الخاطئ له، أو التخبط في التعامل معه، أو التأخُّر في التقاط رسائله، سيقود إلى التدخلات الخارجية لحرف مساره، وبالتالي إلى أخذ لبنان الشعب والدولة والمجتمع إلى السيناريو الليبي والسوري، فيما لا تزال الفرصة متاحة لاستلهام السيناريو التونسي.
مقصود الكلام أعلاه القول: إن النظام الطائفي الذي أسس له الاستعمار الفرنسي، والسائد في لبنان منذ استقلاله، عام 1943، هو، في الجوهر، المسؤول عن انفجار اللبنانيين الجاري، بل وعن كل ما عصف بهم، شعباً ودولة ومجتمعاً واقتصاداً، من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وحروب طائفية. تلك هي الحقيقة التي لم تعترف بها زعامات الطوائف والمذاهب حتى الآن، اتصالاً بأنها منتفعة من هذا النظام، وحاكمة للبلاد باسمه، ومتحكمة بالعباد بموجبه، فيما كان عليها المبادرة، منذ وقوع الاحتراب الداخلي، عام 1958، بين الاتجاه العروبي والاتجاه الانعزالي، إلى سَنِّ قانون انتخابي نسبي كامل خارج القيود الطائفية، في إطار بناء دولة مدنية حديثة تكون المواطنة فيها للجميع، والقانون فوق الجميع، والدستور القول الفصل بين الجميع من اتباع الأديان، والطوائف، والمذاهب.
أما الطامة الكبرى فتتمثل في أن هذه الزعامات لم تفعل ذلك حتى لا بعد وقوع كوارث ما بات يُسمى «الحرب الأهلية الكبرى»، ( 1975- 1990)، ولا بعد 30 عاماً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية البنيوية المتلاحقة، وصولاً إلى الأزمة الحالية التي أظهرت، كما لم يحصل من قبل، تبعات التقاسم الطائفي لكعكة اقتصاد ريعي استهلاكي، لا إنتاجي، تقترن فيه السلطة بالثروة، ويُسد فيه العجز بالمنح، والهبات، والاستقراض، والاستدانة، وبفرض الضرائب على الطبقات الشعبية، وبخصخصة وبيع أصول ما تبقى من القطاع العام.
أما النتيجة فكانت: ثراء فاحشاً وغير مشروع لعدد كبير من زعماء الطوائف، وسيطرة رجال المال والأعمال على 50% من الثروة، ومديونية تُقدَّر ب100 مليار دولار، وبطالة تصل نسبتها إلى 45%، وعجز في الميزان التجاري يُقدر ب11 مليار دولار، وفساد تفشى واستشرى حتى بات مؤسسة لنهب المال العام وهدره وتهريبه بلا حسيب، ورقيب، وهبوط حاد لقيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وارتفاع جنوني للأسعار، وفقر يطحن الطبقات الشعبية، فيما الطبقة الوسطى آخذة بالتلاشي. دع عنك تهالك البنية التحتية، وعدم توافر الحد الأدنى من دعم الدولة لقطاعات الصحة والتعليم والإسكان، فيما بات طمر القمامة، وتوفير الماء والكهرباء مشكلتيْن مستعصيتيْن. أما عن موجات الهجرة الخارجية، خصوصاً هجرة الأدمغة والكفاءات والجيل الشاب فحدّث ولا حرج. الأزمة الحالية لا تتم بالحلول الترقيعية، بل بتغيير نظام الحكم الطائفي، وبالتخلص من نظام اقتصاد «الليبرالية الجديدة» الذي دمر دولاً أكثر ثراءً ومواردَ وإمكانات من الدولة اللبنانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"