ميشيل روبنسون أوباما.. صورة جديدة

05:34 صباحا
قراءة 6 دقائق

في مائة يوم، لا أكثر، تغيرت صورة ميشيل أوباما، السيدة الأولى في الولايات المتحدة، وتغيرت أوصافها وأمزجتها واهتماماتها. وعلى الناحية الأخرى من الأطلسي، ورغم مرور أكثر من مائة يوم، لم تتغير صورة كارلا بروني سيدة فرنسا الأولى. كل ما حدث لصورة كارلا هو أنها تعمقت وازدادت رسوخاً. في الحالتين اتخذت أجهزة الإعلام، أو القوى الخفية التي تقف وراءها، قرارات تتعلق بالصورة المناسبة. تقرر في ما يبدو أن تتغير صورة ميشيل، صورة الناشطة الاجتماعية المعروفة في شوارع وأزقة أفقر أحياء شيكاغو ونصيرة الطبقات الدنيا بين السود. وهناك على بعد بعيد كانت جهات أخرى تقرر الاحتفاظ بصورة كارلا: كارلا آكلة الرجال، عارضة الأزياء اللعوب، الفنانة الارستقراطية. أمر واحد اتفق عليه الإعلام في الدولتين بالنسبة للسيدتين، سيدة أمريكا الأولى وسيدة فرنسا الأولى، وهو محو شبهة كراهيتهما للوطن. فالأولى وجدت من يتهمها بأنها لم تكن يوماً فخورة بكونها أمريكية حسب ما قالته بنفسها عن نفسها، والثانية متهمة بأنها تخلت عن إيطاليا وطنها الأول من دون أن تثبت ولاءها لفرنسا، وطنها الثاني.

يتحدث العالم منذ أسبوعين عن المائة يوم الأولى في ولاية باراك أوباما. وكان يمكن أن يتحدث أكثر لولا أن هبت عاصفة الخنازير فاحتلت مساحات في الصحف وساعات في التلفزيون كان واضحاً أنها تعد أو تستعد منذ أسابيع لتقدم صورة جديدة للرئيس أوباما ولعائلته بأمل أن تسهم هذه الصورة الجديدة في محو الصورة القبيحة التي تكونت لأمريكا في أذهان الرأي العام العالمي على امتداد سنوات ريجان وبوش الكبير وكلينتون وبوش الصغير. ومع ذلك لم تمنع العاصفة أجهزة الإعلام من مواصلة العمل على بناء صورة جديدة لأوباما وعائلته.

أستطيع أن أفهم حماسة أجهزة الإعلام لتغيير صورة أوباما وعائلته. فالصحافة بخاصة والميديا بشكل عام، لا تحب الملل بل تخشاه وتمقته. نفهم نحن المصريين هذا الأمر ربما أكثر من غيرنا، فقد أصاب صحافتنا وكل إعلامنا ما أصابه من تدهور لأسباب معروفة بينها، حال الملل المهيمن في مجتمع لا يصنع خبراً، وحين يصنع خبراً فإنما يصنعه بترو وتردد ومع تحفظات كفيلة كلها بأن تنجب خبراً من دون روح.

أتصور أن هناك من فكر كثيراً في أنه لو تركت عائلة أوباما تنتقل بهدوء إلى البيت الأبيض وتبدأ حياة عائلية رتيبة كتلك التي ألمح إليها باراك وميشيل على امتداد الفترة الانتخابية لربما فقد الرأي العام الأمريكي اهتمامه بالبيت الأبيض ولفقدت الصحافة والميديا عموماً حيوية أهم مصنع للأخبار في العالم. وأظن أن باراك كان في البدء حريصاً على أن يبعد عائلته عن ساحة صنع الأخبار. وأذكر تحديداً طلبه إلى الصحافيين إبقاء ابنتيه ماليا وساشا بعيدتين عن الأضواء بعد انتقالهما إلى البيت الأبيض. ولا أظن أنه كان يخطط لميشيل دوراً سياسياً كالدور الذي حاولت هيلاري كلينتون أن تلعبه في بداية عهد وليام كلينتون وفشلت فيه فشلاً ذريعاً وكادت تؤذي حزبها وزوجها وهيئة مستشاريه. حدث هذا قبل أن يؤذي الرجل نفسه ويؤذيها معه.

استطعت أن أفهم رد فعل القوى المهيمنة على الميديا على هذا الميل من جانب باراك لإبعاد عائلته عن الصورة السياسية. فالميديا لم تكن لتقبل أن تقيم في البيت الأبيض عائلة مملة جداً. لذلك استقدمت إلى البيت الأبيض جرواً. وكان مجيئه إعلاناً عن أن العائلة التي هبطت على واشنطن من أزقة شيكاغو مستعدة لتقليد طبقة الحكم والمال في واشنطن. كان الجرو الخطوة الأولى وبعدها انتقلت الميديا ومبعوثوها المقيمون في البيت الأبيض إلى التركيز على ميشيل لتكون الخطوة التالية واشتغل الجميع على صنع صورة جديدة لها. وبالفعل، أو في رأيي على الأقل، وقع الاختيار على صيغة جاكلين كيندي بعد أن رفض باراك، فيما يبدو، صيغة هيلاري كلينتون التي اختارت صورة الزوجة المشاركة في صنع القرار السياسي. لقد أحدثت جاكلين نقلة قوية في نمط حياة البيت الأبيض وسلوكياته الاجتماعية. أدخلت الأناقة والأرستقراطية وتركت السياسة لزوجها يحتكر الدور فيها وفضلت أن تشاركه في الشعبية والوسامة والأصالة الطبقية. نرى الآن ميشيل وقد أصبحت في نظر وسائط الإعلام واحدة من أكثر سيدات العالم أناقة. يشار لها بالسيدة ذات القوام الممشوق والسمرة الجذابة التي اكتشفتها فجأة أشهر عشرة بيوت أزياء في العالم. جرى تصويرها وتقديمها للرأي العام وهي ترتدي ملابس ومجوهرات كتلك التي كانت ترتديها جاكلين كيندي. ثم تقاسمت النيويورك تايمز والواشنطن بوست سبقاً صحافياً، الأولى صورت ميشيل وهي تزرع الخضراوات في حديقة البيت الأبيض والثانية كان لها سبق الإعلان عن وصول الجرو إلى البيت الأبيض. حينئذ عرفت سوق الميديا أن ولاية أوباما، وبخاصة الجانب العائلي فيها، لن تكون ولاية مملة لا تصنع الأخبار.

أين هذه الصورة، أو الصور، من ماضي باراك وميشيل؟ نعرف الآن أن ميشيل عندما كانت في الحادية والعشرين من عمرها كتبت بحث التخرج في جامعة برنستون عن الطلبة الزنوج في الجامعة. ونعرف أن البحث اختفى خلال الحملة الانتخابية، وبذل إعلاميون جهوداً هائلة للحصول على نسخة منه دون جدوى. ومع ذلك فقد تسرب أنها لم تأت مرة واحدة في البحث على ذكر أمريكا وجاء ذكر الولايات المتحدة مرة واحدة. كتبت ميشيل عن أمتين، أمة بيضاء وأمة سوداء، وتوصلت في البحث إلى أن السود الذين يختلطون بالبيض لا يهتمون بمساعدة أبناء جلدتهم من الفقراء، على عكس السود الذين لا يختلطون إلا بالسود. وفي نهاية البحث الذي أعدته وقدمته في عام 1985 دعت السود الأمريكيين إلى تبني أيديولوجية انفصالية ورفض أي أيديولوجية امتصاصية تنادي بالذوبان داخل مجتمع أبيض. ووصفت السود الذين اندمجوا في الأغلبية البيضاء وقلدوا تصرفاتها وسلوكياتها بأنهم جهلة، فثقافة السود حسب رأيها تختلف جذرياً عن ثقافة المنحدرين من أصول بيضاء. للسود موسيقاهم ولغتهم وكفاحهم المشترك ضد المجتمع والعبودية. لقد عانى السود من عذاب لم يعان مثله جنس آخر حتى الهنود الحمر. وكانت سخريتها من السود الذين أثروا واندمجوا وصاروا يشعرون بالخجل من سلوك أقرانهم السود سخرية لاذعة. ويبدو أن ميشيل الناضجة وزوجة مرشح الحزب الديمقراطي لتولي أعلى منصب في الولايات المتحدة كانت مازالت متأثرة بأيديولوجية سنوات شبابها إلى حد أنها قالت ذات يوم خلال الحملة الانتخابية، إنها تشعر للمرة الأولى بالفخر لكوني أمريكية، وهو التصريح الذي أقام الإعلام الأمريكي ولم يقعده إذ جرى اتهامها بأنها معادية لأمريكا. حينذاك استطاع الإعلام الربط بين أفكارها وأفكار صديق العائلة القس جيريمايا رايت. ولم يتوقف الهجوم عليها إلا حين تنصل باراك أوباما من أبوة القس رايت ورعايته له وتعهده قطع علاقته به.

جار الآن إغفال هذا الجانب من حياة ميشيل أوباما، المرأة التي قادت حملات لإقناع السود في أمريكا بأن وطنهم إفريقيا وليس أمريكا، وبذلت جهوداً مكثفة لبث الكبرياء في نفوسهم واعتزازهم بأصولهم الإفريقية، حتى إن بعض السود في شيكاغو كانوا يشبهونها باليكس هيلي مؤلف رواية الجذور، وهي الرواية التي غيرت مكانة الأمريكيين الإفريقيين، ولا شك عندي أن هيلي وكتابه مسؤولان مسؤولية غير مباشرة عن صعود رجل أسود من شيكاغو إلى قمة السلطة في مجتمع مازالت ثقافته ثقافة الجنس الأبيض.

لفت نظري، كالعادة، أن القوى الإعلامية الكبرى في أمريكا لم يفتها أن تتعمق في خلفية ميشيل لتكتشف ثم تعلن أن ميشيل هي ابنة عم من الدرجة الأولى للجد اليهودي الإثيوبي كابرس فاناي ٌفََئ مِْف من كنيس بيت شالوم نباي ذاكي للجالية اليهودية الإثيوبية في شيكاغو. قيل إن الجد اليهودي ينتمي إلى عائلة روبنسون عن طريق والدته فيرديل شقيقة فريز روبنسون جد ميشيل روبنسون.

هكذا تكتمل في الذهن الأمريكي الصورة الجديدة لميشيل روبنسون أوباما، السمراء الجميلة الرشيقة الأنيقة الارستقراطية ذات الأصول اليهودية.

* * *

المفارقة مع حالة كارلا بروني أن القوى المؤثرة في صناعة الميديا الفرنسية كانت قلقة من احتمال أن يخلو الإليزيه من سيدة فيتفاقم الملل الذي توقعه الكثيرون لسمات معروفة في شخصية ساركوزي. وما إن ظهرت كارلا على الساحة وتوطدت العلاقة بينها وبين ساركوزي وتصاعدت إلى زواج، حتى اطمأن الإعلام الفرنسي إلى أنه لا خوف على فرنسا من الملل. وتكاتفت كل أجهزة الإعلام من أجل تأكيد وتعميق صورة كارلا بروني التي اشتهرت بها قبل دخولها الإليزيه، فهي الصورة أو مجموعة الصور التي نجحت في تغيير نمط الحياة في القصر الجمهوري وجعلت من نيكولا ساركوزي شخصاً مقبولاً ومن منصبه مصدراً لأخبار منعشة ومسلية وكذلك مثيرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"