أخلاق القرية وغابة السياسة الدولية

قراءات لزمن قلق
02:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

كان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، يكرر مراراً، في خطبه السياسية وأحاديثه الاجتماعية، إعجابه بأخلاق القرية، ويشير إلى نشأته في القرية، مشيداً بأخلاقها وقِيَمها، ومنها قِيَم "الإيمان" والطيبة ونبذ العنف، والبساطة والعائلة . . الخ .
وحرص على الظهور أحياناً، بزيّ الفلاح، وفي الوقت نفسه، حرص على ارتداء أحدث الملابس الأوروبية، وحمل عصا "الماريشالية" ونشر صوراً له، بجوار الأهرام الفرعونية . . كان السادات مهووساً بالنجومية والصورة الإعلامية والاستعراض المسرحي .
من ناحية أخرى، يبدو أن مفهوماً غريباً لسبل حل الصراعات الدولية قد استقر في عقل السادات، وذلك من خلال أساليب وأعراف حل النزاعات القبائلية في القرية، وقال ذات يوم: "إن الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر، لديه إيمان وقِيَم، وهو فلاح مثلي" .
وبالتالي، بحسب منطق فلاح القرية المصرية، فإن السادات وكارتر، بإمكانهما التعاون لحل قضية الصراع العربي - "الإسرائيلي" على طريقة وأعراف القبائل العربية، في نزاعاتها على بئر ماء، أو مرعى أو قتل فرد أو خطف فتاة .
اعتقد السادات، بأنه لو ذهب مباشرة إلى "بيت" أو "مرابع" الخصم الذي استولى على أراضٍ ليست من حقه، واغتصب حقوقاً للغير، فإنه سيحرج هذا الخصم، وسيكسب أمريكا والغرب كله إلى جانبه، وسيقدم له هذا الخصم "هدايا" الانسحاب من هذه الأراضي المحتلة والمسروقة، وسيعيد الحقوق لأصحابها .
قرر السادات، الذهاب إلى القدس المحتلة في نوفمبر ،1977 وفي ذهنه منظومة قِيَم القرية وأخلاقها وعاداتها، بما فيها من كرم حاتم الطائي، وتقاليد عبس وذبيان، معتقداً أن "الإسرائيليين" "أبناء العم" كما يقول عنهم، يشاركونه هذه المنظومة من الأخلاق والأعراف! وسيردون له "جميل" هذه الزيارة المفاجئة، والمبادرة "العشائرية" الريفية .
وحينما سأله الصحفي أحمد بهاء الدين: "هل ستخرج "إسرائيل" من سيناء والضفة الغربية؟"، رد السادات قائلاً: "أمرهما مضمون، اطمئن يا بهاء، والقدس بجيبي!" .
ذهب السادات إلى القدس المحتلة، وخاطب "الكنيست" "الإسرائيلي" من غير شروط ولا مطالب مسبقة .
كان السادات يؤمن بأن كسر "الحاجز النفسي" بين العرب و"إسرائيل"، والمبادرة بالصلح، وعفا الله عما سلف، هي من "أخلاق القرية"، وهي التي ستساعده على أخذ الدنيا كلها إلى جانبه، وكان لسان حاله يقول: "لقد ذهبنا نحن إليهم، وأثبتنا أننا "أكبر" منهم، وسوف يخجلون من أنفسهم، ثم يأتون إلينا لطلب الصفح والغفران" .
وكان يعتقد بأن أمريكا ستكون كريمة معه، وأن يهود العالم سيفتحون لمصر خزائن الأرض، وأنه سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، كبطل سلام، لا حروب بعده، ولا جوع ولا عطش . . وتحيا "أخلاق القرية" .
هكذا . . كان فهم السادات لمفهوم "أخلاق القرية" ومثلما وجد فيها مبادئ مثيرة في معالجة الصراعات الدولية، فإنه وجد فيها أيضاً مصدراً للسعادة الذاتية، وها هو يقول:
"يكفي أن أكون فلاحاً بسيطاً لكي أكون أسعد الناس" .
اختار السادات لنفسه لقب "الرئيس المؤمن"، ولقب "كبير العائلة"، وكان بالفعل، فلاحاً في مظهره وزيه، ويدعو مواطنيه دوماً للتمسك بأخلاق القرية، ونبذ ألفاظ العيب، إلا أن المتابع لخطبه، في سنواته الأخيرة، يكتشف، أن السادات قد أكثر من نعت معارضيه من مواطنين مصريين أو حكام عرب، بألفاظ بذيئة، واتسمت قراراته السياسية الكبرى بالفردية، وكشف عن ولعه بالنجومية والأضواء وكاميرات التلفزة، ورغم لقبه "كرئيس مؤمن"، فقد كان يشرب الفودكا في النهار باعتبار أن الفودكا لا تترك رائحة في فم شاربها .
ويبدو أن السادات، كان لديه انطباع، وربما اعتقاد، بأن قِيَم الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر، تتشابه مع قِيَمه هو (السادات)، باعتبار أن كليهما - بحسب اعتقاده - من طبقة الفلاحين، بمعنى أن "الفلاح" المصري يشبه الفلاح الأمريكي في عاداته وقِيَمه، وأنماط معيشته وتفكيره ومستواه الاقتصادي والتعليمي والمعرفي . . الخ، ولم يكن يعلم أنه لا وجه للمقارنة، وبكل المعايير لا وجه للقياس .
وفي الوقت نفسه، ظن السادات، أن الرئيس الأمريكي المولود في قرية زراعية (Plains) هو الذي ينفرد بالقرار، وصناعته، على شاكلة الرئيس المصري، الذي يعتقد أنه هو مصر، أو أنه الفرعون، ولم يدرك بأن صاحب مزرعة الفستق كارتر، هو رئيس دولة مؤسسات وديمقراطية ورقابة، وكونغرس وإعلام ورأي عام وقانون وحرية، فضلاً عن أنه يتميز عن السادات، بأنه كان لا يشرب الكحول، ومتواضع إلى حد كبير . وله مؤلفات زادت على عشرين كتاباً في الدين والقِيَم والسياسة والحكم والسلام العالمي، وكان في معظم كتبه وأنشطته المجتمعية والإنسانية، يركز على القيم الأخلاقية من وجهة نظر دينية، باعتباره مسيحياً إنجيلياً "ومولوداً من جديد" .
ماذا كانت المحصلة؟
لم تغير "أخلاق القرية"، سياسات أمريكا، ولا ألهمت "الإسرائيليين" مبادئ العدل والسلم، ولا خدمت القضية الفلسطينية، وإنما بعثرتها، حتى صرنا نردد في نهاية المطاف مثلاً عربياً شائعاً يقول "رضينا بالهم . . والهم بنا غير راضٍ" .
ولم تؤد نزعة التبسيط المخل للصراعات الدولية، إلاّ إلى مزيد من الزلازل والحروب والدماء والشقاء .
إن الصراعات الدولية، ليست قضية "أخلاق القرية" ولا نوايا فلاح "طيب القلب" في قرية عربية، شدّ الرحال إلى خصمه، بغير بوصلة تهدي، أو فكر وخطط تقود، أو إرادات تحكم .
منظومات القِيَم هنا، ليست هي منظومات القِيَم السائدة هناك، حتى لو كان حاملها سياسياً أو عاملاً في مصنع أو فلاحاً في مزرعة . .الخ .

د. يوسف الحسن

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"