هناك على سرير موته البعيد يتأمل ابن زريق حطام حياته بين حل وترحال وسفر بعد سفر، ووداع بعد وداع، ومطامع تتجدد يوماً بعد يوم، ويخرج من ذلك التأمل بحكم ذات دلالة عميقة في ما آلت إليه حياته، فالهلع والخوف من الفقر لا يكسب الإنسان غنى، والدعة لا تمنعه الرزق، ولو أن المرء أحسن إدارة ما بين يديه لكفاه .
تنتظم قصيدة ابن زريق على سلسلة من التكرارات اللفظية والمعنوية لها فعل السحر على نفس القارئ الذي يجد نفسه وأحاسيسه تتحرك بشكل منتظم بين تكرار الأفعال المتماثلة ما بين الشاعر وزوجته مما ولد داخل النص جناسات عذبة (ودعته، يودعني، أودعه، أدمعي مستهلات وأدمعه، حل ومرتحل، يضيعه، أضيعه)، ويحيل هذا التكرار على الانسجام في علاقة الشاعر بزوجته وحياته الأولى التي هجرها عن قصد راغباً، حياة أكثر رغداً، أما النوع الثاني من التكرارات فمعنوي قائم على تضاد الأفعال بين ما كان عليه الشاعر قبل سفره وما آل إليه بعده، وتمثله عبارات من قبيل (أضر به، ينفعه، أوسع، لا يوسعه، لابساً، ينزعه، هجع النوام، لست أهجعه، أمضته، ترجعه) والتضاد بقدر ما هو انتظام معنوي لكنه يولد توتراً وقلقاً، يعصف بالانسجام ويطرد السكينة، فكأن كلا النوعين من التكرار ينفي بعضهما بعضاً، فلا يكاد القارئ يطمئن إلى الانسجام الذي يولده الجناس حتى يفاجئه التوتر الذي يولده الطباق، فيظل متجاذباً بين تلك الحركتين حتى النهاية، وربما يشكل انتظام الكتل الإيقاعية الأربع لبحر البسيط عاملاً يزيد من الإيقاع والتوتر، ويعطي الروي المزدوج (عه) له متسعاً زمنياً يلتقط معه الشاعر نفسه قبل أن يستأنف لحظات تجاذب جديدة مع بيت جديد، وإذا جمعنا ذلك التشكيل الإيقاعي والمعنوي مع اللغة المشبعة بالحب والألم، يمكن أن نقول إن القصيدة تمثيل إيقاعي ودلالي لحياة ابن زريق الحزينة المتوترة الضائعة بين الطمع بغنى لم يدركه، والألم على حب فرط فيه .
لا تعذليه فإنّ العذل يوجعُهُ
قد قلت حقّاً ولكنْ ليس يسمعُهُ
جاوزتِ في لومه حداً أضر به
من حيثُ قدّرتِ أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً
من عنفه فهو مُضنى القلب موجعُهُ
يكفيه من لوعة التفنيد أن له
من النوى كل يومٍ ما يروعُهُ
ما آبَ من سفرٍ إلا وأزعجَهُ
رأيٌ إلى سفرٍ بالرغم يتبعُهُ
كأنّما هو في حِل ومُرتحَلٍ
موكّلٌ بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراهُ بالرحيل غنىً
ولو إلى السدّ أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلاّ أنْ تجشّمه
للرزق كدا وكم ممّن يودعه
وما مجاهدةُ الإنسان واصلةٌ
رزقاً ولا دَعةُ الإنسان تقطعه
والله قسّم بين الناس رزقَهُمُ
لم يخلقِ الله مخلوقاً يضيّعه
لكنّهم ملئوا حرصاً فلست ترى
مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
والحرص في المرء والأرزاق قد قسمت
بغي، ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهرُ يعطي الفتى ما ليس يطلُبُهُ
حقّاً ويطعمُهُ من حيث يمنعه
أستودع الله في بغداد لي قمراً
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودّعته وبودّي لو يودّعني
صفو الحياة وأنيّ لاأودعه
كم قد تشفّع بي أنْ لا أفارقه
وللضرورات حالٌ لا تشفعه
وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحىً
وأدمعي مستهلاتُ وأدمعه
لا أكذبُ الله ثوبُ العذر منخرقٌ
عنيّ بفرقته لكنْ أرقّعه
إنيّ أوسع عذري في جنايته
بالبين عنه وقلبي لا يوسّعه
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته
كذاك من لا يسوس الملك يخلعُهُ
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا
شكر عليه فإنّ الله ينزعه
كم قائلٍ لي ذنبُ البين قلت له
الذنب والله ذنبي لست أدفعه
أن لا أقطّع أياماً وأنفذها
بحسرةٍ منه في قلبي تقطّعه
بمن إذا هجع النّوام بت به
بلوعةٍ منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجعٌ وكذا
لا يطمئن له مذْ بنت مضجعه
ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني
به ولا أظن بيَ الأيام تفجعه
بالله يا منزل الأنس الذي درست
آثاره وعفت مذ بنت أربُعُه
هل الزمان معيدٌ فيك لذّتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله
وجاد غيثٌ على مغناك يمرعه
من عِنده ليَ عهدٌ لا يَضِيع كما
عندي له عهدُ ود لا أضيّعه
ومن يصدّع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكري يصدّعه
لأصبرن لدهرٍ لا يمتّعُني به
ولا بيَ في حالٍ يمتّعه
علماً بأن اصطباري معقبٌ فرجاً
فأضيق الأمر إن فكّرتُ أوسعه
ابن زريق البغدادي