احترام خصوصيات الآخرين.. واجب ديني وأخلاقي

الحفاظ على أسرار المريض من أبرز مظاهره
02:37 صباحا
قراءة 6 دقائق

من الآداب الإسلامية الرفيعة التي دعمتها الشريعة الإسلامية احترام الحياة الخاصة للآخرين، حيث وضعت سياجاً منيعاً من القيم والتعاليم والأحكام الصارمة، التي تحقق السرية والخصوصية، وجرّمت الاطلاع عليها أو كشفها تحت أية دعوى أو مبرر مهما كان.
هذا الأدب الراقي يؤكد حرص الإسلام الشديد على تنظيم العلاقة بين الناس ليعيشوا حياتهم بحرية بعيداً عن عيون المتلصصين، وسفاهات المتربصين الذين يعشقون الفضائح ويشيعون الخوف والقلق والاضطراب بين الناس.
والالتزام بهذا الأدب الرفيع يجعل الإنسان يعيش مطمئن القلب راضي النفس، والطريق إلى تحقيق هذا الهدف هو حسن علاقته بالآخرين، والحفاظ على مشاعرهم، واحترام خصوصياتهم، وعدم التلصص عليهم، وتجنب البحث عن مساوئهم وتجاوزاتهم.
احترام الحياة الخاصة للآخرين في منظومة الإسلام الأخلاقية له صور كثيرة ومجالات متعددة كما يقول د. محمد الشحات الجندي، أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وهي تبدأ بأدب رفيع هو «أدب الاستئذان واحترام حرمات البيوت وخصوصيات من يقيمون فيها»، وقد غرس فينا القرآن الكريم هذا الأدب من خلال العديد من الآيات المحكمة التي توفر لكل من يلتزم بها حياة طيبة كريمة، وعلاقات محترمة من شأنها توثيق العلاقات بين الناس.

أدب إسلامي راقٍ

ويضيف: جاء في كتب التفسير أن امرأة من الأنصار أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: «يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لايزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال.. فكيف أصنع؟» فنزل جبريل بوحي إلهي يحمل أدباً رفيعاً ينظم دخول البيوت.. يقول الحق سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم، ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون».
وهذا الأدب الذي رسخه القرآن الكريم لايزال - للأسف الشديد - غائباً عن كثير من بيوتنا، وفي ظل غيابه تشهد العلاقات الأسرية والاجتماعية نزاعات ومشكلات بين الأقارب والجيران نتيجة الخروج على أدب الإسلام وانتهاك حرمة البيوت وكشف أسرار أهلها، ما يؤكد حاجتنا الماسة إلى العودة إلى أدب وأخلاق الإسلام المنظمة لدخول بيوت الآخرين واحترام حقوق سكانها حتى ولو كانوا من الأقارب.

إحسان الظن بالآخرين

ولأن الإسلام يستهدف إقامة المجتمع الفاضل الذي تنتشر فيه الثقة بين أفراده، فقد حرص على ترسيخ ثقافة «حسن الظن»، حتى يقيم المجتمع على صفاء النفوس وتبادل الثقة بين أفراده، لا على الريب والشكوك والتهم والظنون، وهذا يوفر لكل فرد في المجتمع العيش بسلام واستقرار بعيداً عن الاضطراب والقلق.
يقول د. سعد الدين هلالي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر: إحسان الظن بالآخرين في ظل منظومة الإسلام الأخلاقية أدب إسلامي رفيع لا يجوز التخلي عنه، فليس من حق المسلم إحاطة أحد بالظنون والشكوك والأوهام، ولا يجوز ترديد الأقوال السيئة أو الشائعات الكاذبة عنه، وهنا يبرز قول الحق سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم».
وفي ظل الفهم الواعي لمدلول هذه الآيات الكريمة، لا يجوز لمسلم أن يسيء الظن بأخيه المسلم من دون مسوغ ولا بينة ناصعة، فالأصل في الناس أنهم أبرياء ووساوس الظن لا يصح أن تعرّض ساحة البريء للاتهام، ولذا يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
والأمر لا يقف هنا عند التحذير من رذيلة سوء الظن لما فيها من ظلم للآخرين، فهناك خلق سيئ لا يليق بمسلم، وهو التجسس، وقد جاء الأمر الإلهي واضحاً وحاسماً «ولا تجسسوا»، وهذا نهي إلهي واضح في عدم التجسس على حياة أحد، والتجسس يأتي نتيجة غياب الثقة وسوء الظن بالآخرين.
لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم تتبع عورات الناس من خصال المنافقين، وحمل على من يفعلون ذلك حملة عنيفة على الملأ، حيث صعد المنبر ونادى بصوت رفيع قائلاً: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله».
لذلك ومن أجل الحفاظ على حرمات الناس، حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحريم أن يطلع أحد على قوم في بيتهم بغير إذنهم، وأهدر في ذلك ما يصيبه من أصحاب البيت فقال: «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه».. كما حرم أن يسمع حديثهم بغير علم منهم ولا رضا فقال: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة».

حماية خصوصيات المريض

ومن أبرز مظاهر احترام خصوصيات الإنسان في ظل منظومة الإسلام الأخلاقية احترام خصوصيات المريض، سواء من جانب الأطباء الذين يعالجونه، أو من جانب الذين يقومون برعايته في المستشفى ويحتفظون ببياناته، أو من جانب من يترددون عليه لزيارته والاطمئنان إليه.
فالعلاقة بين الطبيب ومريضه يجب أن تقوم على الثقة المتبادلة، فمن حق المريض- شرعاً - أن يتحدث عن حالته بموضوعية ويروي لطبيبه معاناته وأعراض مرضه بكل شفافية حتى يسهل للطبيب التعرف إلى المشكلة التي يعانيها، والطبيب في ظل آداب الإسلام ملزم بالحفاظ على أسرار مريضه، ولا يبوح بها لأي شخص أو جهة إلا في حالات خاصة، كأن تطلبها محكمة للقضاء في قضية تخصه، أو أن تطلب جهات تحقيق رسمية تقريراً أو شهادة، وفي بعض هذه الحالات يجوز للطبيب أن يمتنع عن كشف أسرار مريضه.
ولأن أسرار المريض لم تعد محصنة الآن نتيجة تداول ملفات المرضى بين أيادٍ كثيرة داخل المستشفيات والمراكز الطبية، فإن كثيراً من العاملين في المستشفيات يطلعون على مضمون ما تحمله الملفات، والتي تحولت في كثير من المراكز الطبية من ملفات ورقية إلى ملفات على الكمبيوتر، فيجب أن يلتزم كل من يتعامل مع المريض بأدب الإسلام وكل من يسرب معلومة عن مريض يجب محاسبته وردعه.
ويؤكد د. هلالي أن تعاليم الإسلام الواضحة وأخلاقياته الراقية تفرض على كل المتعاملين مع المريض احترام خصوصياته، فالمريض أمام طبيبه يكون في حالة ضعف تدفعه إلى كشف كل ما لديه بحثاً عن الشفاء من الحالة التي يشكو منها، والطبيب يجب أن يكون محل ثقة مريضه ويجب أن يلتزم بأخلاقيات دينه أولاً، وأخلاقيات المهنة السامية التي يمتهنها.

آراء فقهية

ويضيف: إفشاء أسرار المريض لطبيبه قد يمس علائق أخرى غير جوهر المرض مثل الدين والأخلاق والقانون وأمن المجتمع، كما قد يمس أشخاصاً آخرين كالزوج والخاطب وولي الأمر، ولذلك يثور التساؤل دائماً عن مدى حق الطبيب ومسؤوليته في إفشاء أو كتمان تلك الأسرار، ويقول: لقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذا الأمر على ثلاثة اتجاهات:
- الأول: يرى أنه يحرم على الطبيب إفشاء أسرار مريضه وحجتهم: أن الأسرار أمانات، ولا يجوز خيانة الأمانة، واطلاع الطبيب على تلك الأسرار إنما كان بغرض المداواة، ويجب أن يقتصر توظيف تلك الأسرار على العلاج، وبالتالي يجب ألا يستجيب الطبيب لطلبات أي جهة ولو كانت من الجهات الأمنية في إفشاء أسرار مريضه.
- الثاني: يرى أنه يجب على الطبيب توظيف أسرار مريضه في خدمة شتى الجوانب الإصلاحية من العلاج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحجتهم: أن الخبر إذا خرج من المريض لم يعد سراً، كما أن الطبيب قبل أن يكون طبيباً هو إنسان مسؤول في المجتمع، وعليه أن يكون مصلحاً وعنصراً وقائياً لتفادي الضرر، مع مراعاة سياسة التدرج واتباع أخف الضررين عند المعالجة الاجتماعية، وله أن يتعاون مع الجهات الأمنية إذا لزم الأمر.
- أما الاتجاه الثالث: فيرى أن الأصل هو تحريم إفشاء الطبيب لأسرار مريضه، ولكن يجوز ذلك في بعض الصور الاستثنائية التي يؤدي الكتمان فيها إلى ضرر محقق أو ضياع مصلحة معتبرة.
وهذا الاتجاه الأخير هو الذي يتفق مع مقاصد الشريعة من حفظ الكليات الخمس وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
وعن حق كل من الزوجين في الاطلاع على الفحوص الطبية الخاصة بالطرف الآخر، يقول د. هلالي: ناقش الفقهاء هذا الأمر وأقروا عدم جواز كشف سر المريض لأحد الزوجين إلا إذا دعت الضرورة لكشفه، وجرم علماء الإسلام من خلال قرارات مجامع فقهية سلوك الطبيب أو من يحل محله إذا ما كشف سر أي من الزوج والزوجة للطرف الآخر.
من هنا لا يجوز شرعاً أن تطلع الزوجة على خصوصيات زوجها الصحية إلا بإذنه وموافقته، وإذا ما تلصصت على ملفه الطبي واطلعت على ما به خلسة من دون علمه وخلافاً لرغبته أصبحت آثمة شرعاً وتجلب لنفسها غضب الله وعقابه.
وهكذا يرسخ الإسلام أدب الحفاظ على أسرار الناس وستر عوراتهم، ولا ينظر لهذا الأمر على أنه من الآداب والفضائل التي يتزين بها الإنسان فقط.. بل هو واجب ديني وأخلاقي واجتماعي على كل إنسان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"