الإسلام يربي أتباعه على حماية المال العام

ينمي فيهم الرقابة الذاتية ويقرن الأمانة بالإيمان
02:29 صباحا
قراءة 6 دقائق
لم تكتف الشريعة الإسلامية بتقرير حرمة المال العام وتحذير المسلمين من أن تمتد أياديهم إلى شيء منه، بل قررت عقوبات رادعة لكل من تسول له نفسه استحلال شيء من هذا المال لنفسه أو لغيره من دون وجه حق .
والأهم من التحذيرات والعقوبات التي لا تكفي وحدها لحماية المال العام ما عنيت به شريعتنا الغراء من تربية أخلاقية لكل مسلم حتى يجد رادعاً داخلياً يمنعه من أن يتلاعب به الشيطان ويدفعه إلى العدوان أو السطو على المال العام، فما معالم هذه التربية الأخلاقية؟
مفتي مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء د . علي جمعة يرى أن التربية الأخلاقية تلعب دوراً كبيراً في حماية المال العام إلى جانب العقوبات الرادعة ويقول: حرمة المال العام في الإسلام واضحة في آدابه وتشريعاته، والتحذير الشديد من العدوان عليه موجود في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والإسلام في مثل هذه الأمور الخطرة التي يضعف فيها الإنسان أمام شهواته وأطماعه يلجأ إلى أسلوب التربية لأن العقوبات الرادعة هنا لا تكفي وحدها لردع الطامعين في المال العام، ولنا أن نتأمل واقعنا في العالم العربي حيث يتعرض بعض لصوص المال العام من كبار المسؤولين وصغار الموظفين إلى عقوبات رادعة، وما زالت رغم ذلك جرائم العدوان على المال العام مستمرة .

رقيب داخلي

أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر د . يوسف إبراهيم يتفق مع مفتي مصر السابق في اعتماد الإسلام على التربية الأخلاقية لمواجهة جريمة العدوان على المال العام ويقول: يجب أن نعلم أن الإسلام يهتم بأن يغرس في الناس قيمة المحافظة على المال العام، وهو عندما يفعل ذلك يبدأ من أعماق النفس الإنسانية، ويهتم بأن يجعل الإنسان رقيباً على نفسه، يحاسبها قبل أن تحاسب، ويزن عملها قبل أن يوزن عليها .
يحاول الإسلام تحقيق ذلك بإشعار الإنسان بأن الله تعالى مطلع عليه، وأنه معه في كل آن، عند همه إذا هم، وعند تركه شيئا إذا ترك، يقول سبحانه: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم" ويقول عز وجل: "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين" .
فالإسلام من خلال هذه النصوص وأشباهها يجعل الإنسان رقيبا على نفسه فهو مطالب شرعا بمراقبتها وكبح جماحها، فإذا تحقق له ذلك، فإنه لن يحتاج إلى رقيب من المجتمع، أما إذا ألقى تعاليم دينه وراء ظهره وغفل عن مراقبة خالقه له فإنه يحتاج إلى كل رقيب فإذا بنى الإنسان على قيمة المحافظة على المال العام، وغرس في تكوينه أن المحافظة عليه عبادة من أهم العبادات، وأن تبديده والعبث به معصية من أكبر المعاصي، كان ذلك الشعور وهذا الإحساس هو خط الدفاع الأهم عن المال العام . أي أن الإسلام يعمد إلى تربية الفرد تربية تجعله يقظ الضمير، مراقبا لربه في كل سلوكياته، ثم يقيمه بعد ذلك حارسا على تعاليم الشريعة في كل مجال، ومنها مجال المال العام .

من صفات المؤمنين

أما الوسائل التي يستخدمها الإسلام ليغرس في نفس المسلم قيمة المحافظة على المال العام فإنها من وجهة نظر د . يوسف إبراهيم كثيرة ومتنوعة ومن أبرزها:
- الإسلام يلزم أتباعه أن يتعبدوا الله تعالى بعبادات ليست إلا وسائل لتربيتهم أخلاقيا، وتهذيب ضمائرهم، وربطهم بربهم آناء الليل وأطراف النهار، ويجعل من سلوك الفرد في حياته مع الناس عنوانا على صحة أدائه لهذه العبادات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا"، فالهدف من العبادات هو تزكية النفوس، وتقوية مراقبتها لله تعالى، ومن ثم امتثالها لأوامره تعالى في كل مجال ومنها مجال المال العام .
- الإسلام يغرس خلق الأمانة في نفوس الناس بشتى الطرق، تارة بالترغيب في هذه الفضيلة، وأخرى بنفي الإسلام والإيمان عمن لم يحرص عليه، فنجد الأمانة قاسماً مشتركاً في صفات المؤمنين في معظم المواضع التي ذكرت فيها هذه الصفات في القرآن الكريم، فالصفة الخامسة للمؤمنين في سورة (المؤمنون) والصفة السادسة لهم في سورة (المعارج) تقول: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" كما أن عدم وجود صفة الأمانة ينفي عن الشخص الإيمان . . يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا دين لمن لا أمانة له" ويجعله في عداد المنافقين فيقول: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"، والمسلم يحرص أشد الحرص على اكتساب وصف الإيمان، والتخلص من النفاق .
الإسلام يحارب الخيانة بشتى الصور قال تعالى: "إن الله لا يحب الخائنين" وقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" وتوعد من يخون ويختلس شيئا من المال العام بالعذاب الأليم فقال عز وجل: "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة" .

القدوة الحسنة

وهكذا يعمل الإسلام - والكلام على لسان د . يوسف إبراهيم على تربية الشخص تربية تجعله ذاكراً لربه مراقباً له، وتجعل الأمانة صفة ملازمة للإيمان، والخيانة صفة مناقضة له، ويتوعد من يختلس شيئا من المال العام بالعذاب الشديد يوم القيامة، يقول الحق سبحانه: "يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم"
ونقل هذه المعاني الإسلامية إلى الناس وغرسها في نفوسهم يحتاج إلى تربية وهذا واجب الأسرة أولا، وعلى المؤسسات التعليمية، والمؤسسات التثقيفية واجب كبير في ذلك، وأهم من ذلك القدوة التي يقدمها المسؤول في كل موقع من المواقع التي يتعامل فيها مع المال العام، وهي المجتمع كله بكل ساحاته . لما مدح سيدنا عمر بن الخطاب المسلمين الذين أرسلوا إليه بالمال العام الذي لم ير مثيلا له عقب معركة القادسية قائلا: إن قوما أدوا هذا لذووا أمانة . قال له سيدنا علي كرم الله وجهه: عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا . فالقدوة التي يقدمها الحكام والمتصرفون في المال العام هي خير قناة تنتقل فيها قيم المحافظة على المال العام، والحرص على استخدامه فيما خصص له .

حماية المال الخاص

وكما أحاط الإسلام المال العام بحماية وجعل له حرمة، حمى المال الخاص وجرم العدوان عليه . . يقول أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة د . محمد نبيل غنايم: لقد جعل الإسلام للمال حرمة كحرمة النفس والعرض وجرم كل سلوك فيه عدوان على أموال وممتلكات الآخرين، فلا يجوز للإنسان أن يعتدي على مال غيره سواء أكان هذا الغير فردا أو جماعة أو شركة أو كان مالاً عاماً .
ويضيف: لقد كفل الإسلام لكل إنسان حقه في التملك بالطرق الشرعية والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع . . فالملكية حق فطري حافظ عليه الإسلام، قل المال أو كثر، يقول الحق سبحانه: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون" .
واحتراما للملكية الخاصة أوجب الإسلام على الإنسان أن يحمي ملكه الحلال، ولا يفرط فيه لظالم أو غاصب، ولو أدى ذلك إلى إراقة دماء الظالم أو الغاصب، فمع أن حرمة الدم أعظم في نظر الشريعة من حرمة المال، إلا أننا نجدها تبيح القتال لحماية المال، لأن أمن المجتمع واستقراره رهن باحترام النظام الذي يقوم عليه، والملكية الخاصة جزء من النظام الإسلامي الذي شرعه الله للناس ورضيه أبناء المجتمع، والمتعدي على ملك غيره قد أهدر دم نفسه، حيث تجاوز حدود الله وتعدى على سلطان الشرع، وجاء في الحديث الصحيح: "من قتل دون ماله فهو شهيد" .
ويوضح د . غنايم أن الإسلام لا يمنح الحماية والحصانة للمال إلا إذا كان مصدره حلالا، فالأموال التي جمعت من تجارة محرمة لا حصانة لها والأموال التي نهبت من قوت الشعب ينبغي أن تعود إليه، والأموال التي جمعت باستغلال النفوذ لا بد أن تعود إلى خزينة الدولة مع محاسبة من تاجر في الحرام أو امتدت يده إلى المال العام .
ولذلك يشدد الإسلام على ضرورة تحري الدقة واتخاذ جميع الاحتياطات قبل إصدار حكم بمصادرة مال شخص وعدم الجري وراء اتهامات عشوائية أو تحريات غير دقيقة .
ويرفض الإسلام مصادرة المال الحلال ويدين القرارات الظالمة بتأميم الأموال التي آلت إلى صاحبها بطرق مشروعة، وتقرر الأحكام الشرعية عدم جواز مصادرة أموال شخص إلا بحكم قضائي مبني على أسباب شرعية، كأن يجمع الرجل ثروة من كسب خبيث كالمخدرات والاختلاس والرشاوى والبغاء وغسيل الأموال أو استغلال نفوذه، فالمال الحرام لا حصانة له في الإسلام، والأحكام الشرعية هنا حاسمة وواضحة، فلو كان مصدر هذا المال شخصا رد إليه، وإذا كان مصدره الدولة رد إلى خزينة الدولة، وإذا لم يكن له صاحب صرف هذا المال الحرام في مصالح المسلمين العامة كالمدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية وغير ذلك .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"