الإيثار . . قمة السمو الأخلاقي

أخلاق القرآن
02:13 صباحا
قراءة 7 دقائق
رسم القرآن الكريم للمسلم صورة أخلاقية وسلوكية مثالية، وبنى شخصيته على قيم وأخلاقيات رفيعة، حتى يحظى برضا خالقه، وثقة كل المتعاملين معه، فتستقيم حياته، ويؤدي رسالته، ويسهم بفاعلية في بناء ونهضة مجتمعه، ويواجه بقوة وصلابة كل التجاوزات الأخلاقية عملاً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والقرآن الكريم في بنائه الأخلاقي للإنسان جاء بكل ما هو راق ومتحضر، وسما بسلوكه فوق كل الصغائر، ورسم له حياة راقية تغلفها المعاني الإنسانية الرفيعة ليكون إنساناً سوياً، قادراً على التعايش والتعاون مع كل المحيطين به، مترفعاً عن الصغائر، متجنباً للرذائل، مجسداً صورة زاهية لدينه، ملتزماً في سلوكه وأخلاقه وتعاملاته مع الناس جميعاً بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه خالقه "وإنك لعلى خلق عظيم" .
الإيثار . . خلق رفيع، حرص القرآن الكريم على غرسه في نفوس المسلمين جميعا من أجل القضاء على السوءات الأخلاقية والرذائل السلوكية التي تلحق بهم نتيجة سيطرة حب الذات عليهم، حيث لم يكتف القرآن بنشر روح المودة والمحبة والتعاون بين المسلمين لكي يحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، بل ارتفع القرآن بأخلاق الإنسان، وسما بسلوكه إلى الدرجة التي يؤثر فيها أخاه على نفسه، وعندئذ ترتقي شخصيته الإيمانية ويستشعر عظمة الإسلام في كل كيانه، وهذا الخلق الحسن، وذاك السلوك الراقي، والشعور النبيل، من شأنه أن يمد صاحبه بقوة روحية عالية، ويجلب له رضا الله عز وجل ورضا وقبول واستحسان الناس .
والإيثار كما يقول د .سامي عفيفي حجازي، أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين بالأزهر يعني أن يفضل الإنسان غيره على نفسه، وهو يطلق على كل فعل يهدف إلى نفع الآخرين، وله معنيان:
- الأول: نفسي، حيث يدل لفظ "الإيثار" من الناحية النفسية على شعور الإنسان بميله إلى غيره، وهذا الشعور قد يكون ناشئاً بالطبع عن الروابط الموجودة بين أفراد الجنس الواحد، وقد يكون ناشئاً عن التأمل أو إنكار الذات، وهو يشتمل على الحب والاحترام وطيبة النفس .
- الثاني: خلقي، حيث يسير في الاتجاه المضاد لاتجاه المنفعة، وهو اتجاه الخير الذي يحمل غاية السلوك الذاتي لنفع الناس ودفع الضر عنهم، وقاعدة أن تحيا في سبيل غيرك، وأن تجعل الحب مبدأك، والنظام دعامتك، والتقدم هدفك .
والإيثار كذلك، خلق من الأخلاق الاجتماعية التي اشتملت عليها النصوص الإيمانية التي تنظم العلاقة بين الإنسان وخالقه من جانب، وبين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه من جانب آخر، وهو من الأخلاق التي يكتسبها المسلم من تعاليم القرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك فالمسلم الذي يتخلق بأخلاق القرآن، ويقتدي برسول الله ويجعله أسوته الحسنة، يحرص أشد الحرص على خلق الإيثار، وهو متى وجد محلاً للإيثار آثر غيره على نفسه، وفضّله عليها، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروى سواه، بل قد يموت في سبيل إحياء غيره، ونحن نرى مشاهد عظيمة لهذا الإيثار في سلوك المسلمين اليوم رغم عدم تدينهم، ولكن روح الشجاعة والإقدام التي يتحلى بها المسلم تدفعه إلى تقديم الخير والغوث للآخرين حتى ولو ترتب على ذلك هلاكه .

مقام الآثرين

ولأهمية هذا الخلق العظيم وتأثيره الإيجابي في نفوس كل من يحرص عليه ويتحلى به، رسم له القرآن الكريم كما يقول د . محمد عبد الفضيل القوصي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر صورة وضيئة، وأثنى على صانعيه، بقوله تعالى: "والّذين تبوأوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مّمّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون" .
قال ابن كثير رحمه الله: أي يقدمون حاجات غيرهم على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك .
ومقام الآثرين كما يقول علماء الأخلاق أعلى من حال الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً"، وقوله سبحانه: "وآتى المال على حبه"، فهؤلاء تصدقوا بالمال وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، لكن الآثرين قدموا للآخرين ما هم في حاجة إليه، ومن هنا تصدق أبو بكر الصديق بجميع ماله مع حاجة أهله إلى بعضه، وعندما سأله النبي الأعظم، صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال له: أبقيت لهم الله ورسوله .
فما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو الإيثار في أرقى صوره، فقد كان صاحب مال وتجارة، ولكنه قدم كل ما تحت يده من أموال لمن هم في حاجة إليها ولم يترك لنفسه وأهله شيئا من ذلك . . هو يفعل ذلك وكله إيمان ويقين بأن ما عند الله أهم وأبقى، ويدرك معنى قول الحق سبحانه: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً" . وقوله سبحانه: "وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور" .
فكل من يحتقر الدنيا ويزدريها، ويختار الآخرة ويجتبيها يبذل ماله، ويقدم ما في يده، ويؤثر الآخرين على نفسه، وهو يعلم علم اليقين بأن ما عند الله أكثر ربحا وأعظم أجراً .
هذه الروح الإيثارية التي غرسها القرآن الكريم في نفس المسلم تجسدت في سلوك كثير من المسلمين في عصر صدر الإسلام لتواجه كل صور الأنانية التي شاعت في نفوس كثير من العرب، ليبدو الفرق واضحاً بين أخلاق القرآن وأخلاق البداوة البعيدة عن روح الإسلام، وقصة سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف بعد أن آخى النبي بينهما تجسد قيمة الإيثار، حيث تنازل الأول للثاني عن شطر ماله، وعن إحدى داريه، وإحدى زوجتيه، يطلقها ليتزوجها هو فعف ابن عوف عن ذلك كله وقال لسعد: "بارك الله لك في أهلك وبارك الله لك في دارك وبارك لك في مالك، إنما أنا امرؤ تاجر، فدلوني على السوق" .
هذا الإيثار النادر قلّ أن تعرف الدنيا له نظيراً، وقد قابله تعفف كريم نبيل، وكلاهما يعطينا ملمحاً من ملامح المجتمع المسلم الذي أقامه الرسول الكريم في المدينة والذي نرنو إلى مثله دائما، باعتباره مثلاً أعلى .

مظاهر مؤسفة

وخلق الإيثار الذي غرسه القرآن في نفس المسلم لا يستهدف الرقي السلوكي والأخلاقي فقط، لكنه يستهدف أيضا محاربة رذيلة "الأنانية وحب الذات" التي هي طبيعة بشرية وتعانيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية الآن .
يقول د .القوصي: القرآن يبني شخصية المسلم على التضحية والفداء، وهذا ما يجعله يواجه كل نوازع الشر والأنانية داخله، فهو يتفانى في صيانة الحرمات، والاعتراف بحقوق الآخرين، ويدفع المسلم إلى أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ثم من هذه المرتبة التي تجسد سماحة الإنسان وخيريته ينتقل إلى أن يؤثر أخاه على نفسه، وعندئذ ترتقي شخصية الإنسان إلى مرتبة من السمو الروحي والأخلاقي، حيث يشعر بعظمة الإسلام في كل كيانه، ويمده هذا الشعور بقوة روحية عالية، فيرى الوجود من حوله كأنه أسرة واحدة، يظللها الدين بسماحته ويسره فلا عسر ولا حرج بعطائه وسخائه، ولا تضييق ولا شح بأخوة تشع تضامناً وإخلاصاً وحباً وولاء، وفي النهاية تسمو روح الإيثار وتنتشر بين الناس ويكون المجتمع الإسلامي بلا فرقة ولا حقد ولا بغضاء .
ويضيف: لكن في ظل غياب قيم وأخلاق القرآن عن حياتنا وتلاشي قيمة البذل والتضحية في نفوس الأنانيين بدأنا في العالم العربي والإسلامي نعاني مظاهر حقد وحسد وغيرة مدمرة دفعت أصحاب التربية السيئة من الذين غابت عنهم أخلاق القرآن إلى ارتكاب جرائم منكرة ضد الآخرين من أجل سرقتهم أو بدافع الحقد عليهم، أو الغيرة منهم ومجتمعاتنا العربية والإسلامية تزخر بالعديد من الجرائم يومياً بسبب انتشار الأنانية والحقد والغيرة بين الناس .
بل الأغرب والأبشع من ذلك والكلام على لسان د . القوصي أن من يتحلون بالرضا والقناعة وحب الآخرين وإيثارهم وهم يمثلون قلة تتناقص باستمرار هم محل سخرية الأنانيين الذين يعيشون أسرى لخيالهم المريض، ولحب الذات، حيث ينظرون إلى هؤلاء الفضلاء الذين تحلوا بالرضا والقناعة وحب الخير للآخرين وعدم الحقد عليهم أو حسدهم أو التطلع إلى ما في أياديهم على أنهم "سفهاء" لا يدركون ما يفعلون ويعيشون في عصر غير عصرهم .

مواجهة مطلوبة

هذا السلوك الأناني الذي أصبح ثقافة عامة في بلادنا العربية والإسلامية، ويسيطر على سلوك الكثيرين حتى مع أقرب الناس إليهم، ونراه شائعاً بين الإخوة والأقارب والأزواج والزوجات والآباء والأبناء، حيث يبحث كل فرد عن مصلحته الشخصية تفرض علينا مواجهة العودة إلى قيم وأخلاقيات القرآن لتربية أولادنا عليها منذ الصغر، ذلك أن التوجيهات الدينية التي مصدرها القرآن وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله تحقق التأثير المطلوب لو قدمت للناس وخاصة الشباب بشكل جيد .
وهنا تؤكد الخبيرة الاجتماعية د .عزة كريم مستشارة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن التوجيهات الدينية هي إحدى الوسائل الفاعلة لمواجهة الأنانية والغيرة وحب الذات، لكنها لا يمكن أن تكون الحل الوحيد، حيث تجب إشاعة روح المودة والتعاون بين الناس بتحقيق العدالة والمساواة بينهم، وفي ظل غياب العدالة واستمرار تمييز البعض على البعض الآخر من دون دواع أو مبررات مقبولة، فإن الغيرة بين الناس سوف تتزايد والحقد عليهم سوف يتواصل والرغبة في الانتقام من الجميع سوف تتصاعد .
لذلك تطالب الخبيرة الاجتماعية الآباء الذين يفرقون بين أبنائهم في المعاملة وفي العطايا والهبات بالكف عن هذا السلوك الذي قد يفعله كثير من الآباء من دون قصد أو عن تعمد، لأنه يفسد العلاقة بين الأشقاء ويزرع الحقد والبغضاء بينهم وبدلا من أن يكون بينهم "إيثار" ومحبة وتعاون وتفاهم وحرص على مصالح الجميع ستكون بينهم كراهية وحقد ورغبة في الانتقام .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"