البيوت القديمة حنين يسكن القلوب

13:25 مساء
قراءة 6 دقائق

ارتباط الانسان بماضيه أمر طبيعي له أسبابه، ويعني له التاريخ والهوية والجذور والتراث والذكريات والامجاد التي لها أهمية كبيرة لاتنفصل عراها عن حاضر الانسان ومستقبله لذلك يحتل المنزل القديم الذي يتربى فيه الإنسان مكانة عالية في نفوس كبار السن، وللحي السكني القديم ببساطته وساحاته الترابية ومبانيه الطينية والصخرية أشجان تدمع لها عيونهم حين يتذكرون تلك الأجواء الأسرية التي حملت الدفء والمودة والجلسات الهادئة التي جمعت الأهل والأصحاب . وهناك العديد من كبار السن يرفضون بشدة طلب أبنائهم لترك منازلهم إلى أخرى حديثة عليها الطابع العمراني الحديث ومنهم الوالد علي عبد الله اليليلي (75 عاماً) من منطقة وادي سهم الذي سألناه عن سر تمسكه بمنزلة القديم بالوادي على الرغم من العروض المقدمة له من قبل أبنائه ومن وزارة الأشغال ببناء مسكن جديد له . قال: أتنفس الهواء العليل من خلال هذا البيت ولأنه يحمل أجمل الذكريات في حياتي برفقة زوجتي وكل شبر فيه له قصة ويجعلني دائماً في حنين وحب للماضي، ولذكريات الجيرة نكهتها التي لا يمكن أن أنساها وخصوصا انني اعتدت على رفقه جيراني، ولن أفرط في منزلي ولا أرضى عنه بديلاً .

الوالد محمد اليماحي 72 عاماً من منطقة الميه في الطويين يعيش في بيت قديم فوق رؤوس الجبال ويقول: هو عريش أكثر منه بيتاً ولا يعرف الحداثة أو لا يقارن بالبيوت الموجودة في الطويين وقد ورثت هذا البيت العتيق من أجدادي وقد يعود إلى جدي الرابع أو الخامس وربما يكون مضى عليه أكثر من 250 عاما، وهو على هذه الحال لم يتأثر بعواصف أو رياح أو الطقس المتبدل بل يقف مشرقا وقمت بطلائه مؤخراً باللون الأبيض . ويتكون البيت من طين وحصى وسعف النخيل ولا توجد به أي قطع من الإسمنت وجميع المواد الداخلة في تركيبه مأخوذة من البيئة المحلية . وأضاف هذا المنزل يعتبر بالنسبة لي ولزوجتي مثل الهواء والماء وأشعر انه منحني الصحة وهدوء البال فلا يمكن العيش بدونه ورغم انني أجريت عليه تعديلات لكن لم اقترب من بعض الأركان لان جدرانه تحمل ذكريات متعددة لي ولزوجتي ولا أحد يعرف قيمتها ولا يعلمها الأبناء إلا نحن . ويعتبر اليماحي أن هذا البيت بالنسبة له يشكل جزءا من حياته والتراث .

ويقول علي سعيد علي من منطقة الغوب بدبا الفجيرة: أحب العيش في المنزل القديم ولا يمكن الاستغناء عنه، والمحافظة عليه حفاظ على ميراثنا من آبائنا وأجدادنا، كما أن روعة مكان منزلي القديم يجعل نفسيتنا في راحة تامة، ولا يمكن أن أتخلى عنه حتى أموت .

الحاج سالم بن حسن من منطقة الجريف بالفجيرة يقول: أعيش منذ صغري بالبيت القديم الذي نشأت وتربيت فيه، فكل شخص لا يمكن أن ينسى طفولته وأنا وإخواني وأخواتي مع والدي جمعنا البيت الصغير المبني من الحصى وسقفه من جريد النخل في الصيف وفي الشتاء نسكن خيام العسبق لأنها تكون أدفأ من العرشان .

ويضيف: المنزل القديم يعني لي الكثير وحين أُشاهده أتذكر أناساً رحلوا عنا فيه والحياة البسيطة التي كنا نعيشها .

الوالد عبد الله محمد سالم اليماحي يقول: هناك ارتباط عميق بالمنزل القديم لأنه يعني الذكريات الجميلة وبداية الحياة الزوجية وتكوين الأسرة فأتذكر دائماً المواقف الطيبة والزوار والحياة البسيطة والطبيعه الخلابة . ولا ننسى أبداً المغفور له الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله حين أخرجنا من تلك البيوت ليجمعنا في بيوت حديثة يتوفر فيها الماء والكهرباء والتكييف ومتطلبات الحياة العصرية، لكني ما زلت محافظاً، على بيتي القديم وأسكن فيه بين فترة وأخرى .

الوالد علي بن صالح الحمدي، يقول: البيت القديم تربينا فيه وعشنا صغاراً في أسرة متماسكة ومن منا كبر بنى بيته بالقرب منهم ولم يذهب بعيداً عنهم والبيت القديم هو رمز لكفاح الماضي وسنبقى محافظين عليه .

حميد بن قدور يقول: البيت القديم هو بيت العائلة الاساسي فهو مكان اجتماعهم وتشاركهم الافراح والأتراح وعلمنا معنى الترابط والاتحاد وغرس في نفوسنا حب الآخرين وهذا البيت يرمز الى التراث الاصيل ونفخر به . ويؤكد أن حنين الآباء والأجداد للبيت القديم يمثل عندهم التراث والأصالة والقوة والانسجام والتراحم والتكافل الاجتماعي، وهي كلها أسباب قوية تدفعهم إلى الحنين للبيت القديم، لأنه جزء مهم من مقومات هويتهم الوطنية .

فاطمة محمد الحمدي من الفجيرة تقول: إن تمسك الآباء بالبيت القديم، يعود لعدة أسباب منها أن هذا البيت يعتبر نقطة الاحتواء الرئيسية للذكريات التي توطد العلاقة بين الأهل والبيت، مثلا وجود أحد الوالدين من كبار السن في هذا البيت لفترة طويلة والعناية به حتى وفاته تزيدان الذكريات الجميلة التي يصعب معها الرحيل من هذا المكان إلى آخر، وبعضهم يشعر برائحة جده أو والده في ربوع البيت لذلك يصعب عليه تركه، وفي تصور البعض أن وجود كبار السن في هذا البيت فترة زمنية طويلة هو سبب من أسباب البركة، لذلك يجدون أن الانتقال قد يضيعها، وللجيران دور كبير في التعلق بالبيت القديم .

د . صالح سمير الدليمي، استاذ علم الاجتماع بجامعة الشارقة، يقول: عندما نحاول تفسير طبيعة العلاقة بين كبار السن والحنين الى البيت القديم يمكننا الانطلاق من التفسير البنيوي الوظيفي للبيت القديم الذي يمثل الاسرة كنسق مهم في البناء الاجتماعي .فالبيت القديم بالنسبة لكبار السن يمثل الراحة النفسية والاستقرار والقوة والحب والتراحم رغم صعوبة العيش وقسوتها في بعض الأحيان، يضم بين جدرانه الأسرة وهي الوحدة الاجتماعية التي ينشأ فيها الانسان وينمو ويكبر ويتعلم منها أمور حياته الخاصة ومجتمعه وتكبر معه هذه الذكريات عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية التي تؤكد غرس القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية بشخصيته وتكون حلقة الوصل بين ذكريات الماضي واستشراف المستقبل من خلال الحاضر .

وأوضح الدليمي أن حنين كبار السن للماضي، رغم مغريات الحياة وجماليتها حالياً، سببه أنه يمثل الايام الجميلة التي عاشها والتي مازال يحتفظ بجزء كبير من ذكرياتها التي تمثل لديه الشباب والقوة، بالإضافة إلى أن النفس لا تأنس وتطمئن لمكان غريب عليها لأن العبرة ليست بحداثة المكان ولكن بما تهواه النفس وتميل إليه .

بحسب د . ابراهيم عبد الرحمن الدرمكي، محاضر بجامعة الشارقة فإن المنزل القديم في زمن كبار السن كان عبارة عن كائن واحد يستوعب كل العلاقات ويلبي جميع الحاجات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، لذلك لا يتحمل الكثير منهم تركه . أما الآن فقد تعقد طابع المكان وتغيرت وظيفته حتى غدا غير مقبول لديهم على الاطلاق . ويقول: المسكن، عند كبار السن يمثل مركزاً مهماً لأن في كل زاوية فيه لهم ذكرى عبر مسيرة طفولتهم إلى زمن الأجداد، والأزقة الرملية عندهم تمثل رمزا عاطفيا حميميا وموقعاً اجتماعياً مؤثرا قياساً إلى العناصر الأخرى من المدينة . لذلك تجدهم دائما يساهمون في حفظ ذاكرة المكان، وهم بذلك إنما يقومون بتصوير الماضي واستنساخه في حياتنا حتى تصبح الصورة حقيقية لتتواصل عبر الأجيال .

ويقول د . محمد اسعد الأسعد، استاذ علم الاجتماع بجامعة عجمان بالفجيرة: إن المنزل القديم يعني للمسن الماضي المرتبط بالمكان والزمان اللذين لا يمكن للانسان أن ينفصل عنهما، فهاتان الصورتان تحملان في طياتهما كل ما يتعلق بهذا الانسان المسن ويختزلان كل ماضيه، وعلاقة الرجل المسن بمنزله القديم ورفضه في أحيان كثيرة الانتقال الى المنزل الجديد، مرتبطان بالتنشئة الاجتماعية، لأنه المكان الذي ولد فيه، هو وآباؤه، ونما وترعرع، وتشكلت من خلاله العلاقات الاجتماعية الدائمة مع الأهل والجيران والخلان والمحلة والمسجد والمدرسة ومكان العمل والرزق، وهو مرتبط بالمسكن والحي القديم الذي رسخ فيه العلاقات الاجتماعية التي تعبر عن روح التضامن والتعاون والألفة والتآلف والتعاطف والمشاركة الوجدانية الاجتماعية والتي تشكلت فيه وأكسبته والمعاني والرموز واللغة والقيم والاخلاق، وذكريات العمر بكل مراحله، فضلاً عن تكوينه لأسرته .

وأكد الأسعد أن الانتقال من المنزل القديم الى الجديد، قد يشكل الفارق بين ثقافتين: قديمة وحديثة، او بين التراث والحداثة، أو قد يعني الصراع أحياناً، بين ثقافتين: ثقافة الآباء والاجداد المرتبطة بالتراث، وثقافة الأبناء العصرية، والكبار دائماً يتشبثون بما هو قديم، ويعدون المنزل القديم رمزا للخير وهو كما يسمونه (عتبة الخير) .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"