التعصب للرأي جاهلية مقيتة

التعددية الفكرية سمة مميزة للحضارة الإسلامية
12:54 مساء
قراءة 5 دقائق

الاختلاف في وجهات النظر أمر فطري وطبيعي وله علاقة بالفروق الفردية إلى حد كبير، فالاختلاف في الآراء والتوجهات وربما حتى النوايا ظواهر طبيعية وجدت مع وجود الإنسان وستبقى إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فتلك هي حقائق الحياة وطبائع الناس، والإنسان حر في رأيه ومن واجب الطرف الآخر تقدير هذا الرأي واحترام صاحبه بعيداً عن التعصب الأعمى أو الاستهانة به لأن ذلك إن حدث فهو دليل إفلاس وعدم القدرة على مواجهة الحجة بالحجة .

لذلك فإن الغرب حقق الرقي والتقدم بسبب احترامه للرأي الآخر حيث استغل الاختلاف في الرأي ليصبح آلية دفع وتطوير وتعاون وتكامل في الأفكار بدلاً من آلية تفرقة وتنازع، وهو ما نفتقده في بلادنا العربية رغم أن القرآن الكريم قدم أنموذجاً إيجابياً في التعامل مع الاختلاف وتحويله إلى عامل تفاعل وتكامل يؤدي إلى تنمية القدرات البشرية في تحقيق الاستخلاف العمراني على الأرض بدلاً من عامل نزاع وتقاتل يؤدي إلى هلاك البشرية .

عرضنا مسألة التعصب للرأي والاستهانة بآراء الآخرين على عدد من العلماء وكانت هذه آراؤهم:

الدكتور عبدالصبور شاهين الأستاذ في جامعة القاهرة والداعية الإسلامي المعروف أكد أن الاختلاف في الرأي دليل على سلامة المجتمع وتفاعل أفراده وتكاملهم ولكن مما يؤسف له تحول الاختلاف في وجهات النظر من ظاهرة صحية تغني العقل بخصوبة الرأي وعمق الفكر إلى ظاهرة ضعف وتفكك وتناحر حتى يكاد الأمر يصل عند بعض المختلفين إلى حد التطرف والتصفية الجسدية كما يحدث اليوم بين بعض أبناء الأمة .

النهي عن الجدال

والحوار عادة يكون نقاشاً إيجابياً يرغب فيه كلا الطرفين في الوصول إلى الحقيقة، أما الجدال فهو أقوى من الحوار وذلك لاعتداد أحد المخالفين أو كليهما برأيه أو موقفه ومحاولته الدفاع عنه أو إقناع الآخر به بل الأكثر أن يحاول حمل الآخر عليه مع الاستهانة والاستخفاف برأي هذا الآخر ولقد نهى الله سبحانه عن الجدال لأنه يكدر صفو الأخوة ويؤدي إلى تنافر القلوب وخلق الأحقاد والأضغان .

وأضاف الدكتور عبدالصبور شاهين إن القرآن الكريم شجع على التحاور والوسطية في الرأي بعيدا عن التعصب حتى في أمور العقيدة بمقارعة الحجة بالحجة كما بيّن إيجابية الاختلاف التي يظهر فيها التنوع في الخبرات والقدرات والأفكار لتصل بجميع الأطراف إلى أفضل الحلول مما يجعل الاختلاف أداة تعارف ويجعل الشعوب والقبائل تحتاج الى بعضها بعضاً فيصبح التعارف وسيلة لاكتشاف الآخر .

جمود عقلي

الدكتور محمد داود أستاذ الدراسات اللغوية والإسلامية في جامعة قناة السويس قال: إن التعصب جمود في العقل وانهيار للفكر لأنه لا يسمح بالتعددية الفكرية وسنة الفكر أن الآراء يقدح بعضها بعضا . . ومن خلال التعددية نصل إلى الأفضل ونقف على السلبيات والعيوب في الآراء المعروضة .

أيضا التعددية في الفكر تعمق الفهم للمسائل لأن المسألة حينئذ ترى من زوايا ووجوه متعددة في حين أن الجمود على فكرة واحدة، أو وجه واحد يقتل بقية الآراء والأفكار، وأضاف: إن الإسلام قد وضع الأساس النظري للتعامل بين البشر على أساس مبدأ المساواة فالأصل واحد، قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا . أما اختلاف الألسنة والألوان فهو من آيات الله الدالة على عظمته وقدرته ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن شاءت قدرة الله أن تتعدد الأجناس والألوان والألسن من دون أن يكون هذا سببا في تفضيل بعض الناس به على بعض إنما الميزان الذي يتفاضل الناس هو التقوى وحسن الخلق وهو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من خيرة الصحابة رضوان الله عليهم وهو سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله .

والتعصب جاهلية مقيتة حسمها الإسلام وقضى عليها من جذورها وذم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم العصبية والتعصب في كثير من أحاديثه ومن ذلك قوله عليه السلام: ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية .

ظاهرة قديمة

الدكتور علي المكاوي أستاذ علم الاجتماع في جامعة القاهرة رأى ان التعصب ظاهرة قديمة موجودة في مختلف المجتمعات البشرية وفي مختلف مستوياتها، وهي ظاهرة تمثل انحرافاً مرضياً حينما لا تكون ذات مضمون أخلاقي كالانتصار للحق أو لدعاته، والتعصب ينشأ عن اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر الحق لنفسه، فالمتعصب لا يفكر فيما يتعصب له بل يقبله كما هو فحسب، لذا فلا يمكن لمتعصب أن يتواصل إلا مع من يردد نفس مقولاته كما أن تسرعه في إصدار الأحكام من دون روية مع عدم وضوح الرؤية يوقعه في أخطاء فادحة ومشكلات كثيرة . وأضاف إن أهمية الحوار تكمن في مبدئه الذي يعتمد على إبداء الرأي ووجهة نظر الفرد والقناعات الداخلية له وطرق الدفاع عن هذه التوجهات مع قبول ما للطرف الآخر من توجهات فكرية بعيدا عن أسلوب القوة ولغة الصراع .

وذهب الدكتور المكاوي إلى أن من أبرز معالم التطرف الحديث التعصب للرأي وعدم الاعتراف برأي الغير، وفهمه وإنكار ما عنده من الحق ما دام خالفه وقد يبالغ بعضهم فيتجاوز حد التسفيه للرأي الآخر، ويرجع هذا السلوك إلى قلة العلم وذلك لأن من جهل شيئاً عاداه .

عوائق الحوار

وأشار الدكتور المكاوي إلى أن عوائق الحوار كثيرة منها الخوف والخجل والمجاملة والثرثرة والإطناب واللف والدوران والتقعر واستخدام المصطلحات غير المفهومة مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها أمام محاور لا يفهم معانيها، مع رفع الصوت من غير موجب والصراخ والتعصب وإظهار النفس وعدم الرغبة في إظهار الحق رغم أن الإصغاء أدب عظيم وتقول فيه العرب: إن رأس الأدب كُله الفهم والتفهم والإصغاء إلى المتكلم، أما الجدل فهو خلق مذموم ينبغي للإنسان أن يبتعد عنه وإذا اضطر إليه فيجب أن يكون بالتي هي أحسن كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن .

كذلك رأى أن هناك وسائل كثيرة لعلاج ظاهرة التعصب للرأي والاستهانة بآراء الآخرين منها دور الأسرة وأولي الأمر والإعلام حيث تقع على كل منها مسؤولية تعليم الأبناء فن وثقافة الحوار البناء، فتعليم الحوار الهادئ وإقناع كل طرف للآخر بالحسنى بعيداً عن التعصب من أهم الأساليب الناجحة في علاج هذه الظاهرة .

فروق فردية

يرى الدكتور محمد علاء الدين عطا أستاذ التربية في جامعة الأزهر أن حكمة الله اقتضت أن يكون الناس مختلفين وبينهم فروق فردية، سواء أكانت خلقية أم مكتسبة، وجعلها من آياته في خلقه قال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، وحذر الإسلام من أن يتحول التحاور إلى عصبية سلبية تأخذ مبدأ عدوانياً تجاه الآخرين، بل عمل على ترسيخ مبدأ الشورى والتشاور على جميع المستويات كفرد وأسرة ومجتمع لتدريب الأمة على مشاركة الرأي والتحاور .

وأشار الدكتور محمد علاء الدين إلى أن ثقافة احترام الرأي الآخر مفقودة عندنا ولا سبيل إلى بناء ثقافة التعاون والتعامل بالحسنى إلا بالتمسك بالدين القيم وأخلاقه وتعاليمه ووضع الضوابط والقواعد لضبط الرأي مع ترك الجدل الذي يجب أن يتبعه أمران: أولهما أن نعترف بأخطائنا إن كنا مخطئين فالاعتراف بالخطأ فضيلة . وثانيهما أن نحترم آراء الآخرين ولا نستهين بها حتى لا تنشأ العداوة والبغضاء بين أبناء المجتمع الواحد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"