الرحمة في معاملة الحيوان

قبسات فقهية
02:07 صباحا
قراءة 5 دقائق

سخر الله تعالى الحيوانات لنفع الإنسان، فجعلها سهلة الانقياد له، مذللة لأوامره ونواهيه واستعماله، بحيث لا يجد مشقة في استعمالها، فاعتُبر ذلك آية ونعمة من نعم الله تعالى على خلقه، قال تعالى: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون، وقال سبحانه: ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، وقال جل شأنه: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآيات لقوم يذكرون، ومن ملازمات التسخير أن يستمر أداء المسخر لما سخر له، وهذا لن يتأتى إلا إذا روعي في استعماله الرفق به، حتى لا يكل ولا يتوقف عن قيامه بما خلق لأجله، ولذا جاءت تعاليم الإسلام آمرة بالرحمة عند استعمال هذه الحيوانات، وعدم الإثقال عليها، رغبة في استمرارها في أداء ما خلقت له، فنهى الشارع عن استعمالها في غير ما خلقت له، بحسبان ذلك مؤثرا في أداء ما سخرت له، وإساءة لاستعمالها، إذ روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قوم، وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال: اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب ركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرا لله تعالى منه، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم أن تتخذوا ظهور دوابِكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتُبلِغكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشِقِ الأنفسِ، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجتِكم، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله، أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أومن به وأبو بكر وعمر، حيث دلت هذه الأحاديث على حرمة استعمال الحيوان في غير ما خلق له، وأن من استعمله في ذلك آثم، بحسبان النهي مقتضيا للحرمة، ولما كان النهي عن شيء أمر بضده، فإن هذه النصوص تدل على وجوب استعمال الحيوانات فيما خلقت له، كما نهى الشارع عن إرهاق هذه الدواب بكثرة العمل، وعدم الرفق بها عند استعمالها فيه، فقد روي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسر إليّ حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حائش نخل، فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل، لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه (أردفني: أركبني خلفه، الهدف: كل مرتفع من الرمل أو البناء، حائش النخل: جماعة النخل، الحائط: بستان النخيل إذا كان عليه جدار، سراة البعير: ظهره، ذفراه: أصول أذنيه، تجيعه: لا تقدم له طعاما يشبعه، تدئبه: تكده وتتعبه)، حيث نعى النبي صلى الله عليه وسلم على صاحب الجمل أنه يتعبه عند العمل ولا يرفق به، ودعاه إلى أن يتقي الله تعالى فيه، مما يدل على أن إتعاب الحيوان عند استعماله محرم، كما نهى الشارع عن تعذيب هذه الحيوانات عند استعمالها، سواء اتخذ هذا التعذيب صورة ضربها بغير مقتض، أو تحميلها ما لا تطيق حمله، أو استمرار أدائها للأعمال مدة من الزمن من شأنها أن ترهقها وتتعبها وتكدها، أو قيامها بأعمال تشق عليها وتعرضها للأذى أو الهلاك، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، وصحّ عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن غلاماً عمِل على بغلٍ له، فكان يأتيه بدرهمٍ كل يوم، فجاء يوماً بدرهمٍ ونصف الدرهم، فقال عمر: ما بدا لك؟، قال: نفِقتُ السوق، فقال عمر: لا، لكنك أتعبت البغل، إجِمّه ثلاثة أيام (ما بدا لك: أي من أين له بهذه الزيادة، نفقت: راجت، أجِمْه: أي أرِحهُ واترُكهُ ولا تركبهُ)، ونهى عن استعمال الحيوانات في الحال التي تكون فيها غير صالحة للاستعمال: كما في حال مرضها أو إعيائها أو جوعها، أو حال ولادتها، أو نحو ذلك، فقد روي عن سهل بن حنظلة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، اركبوها صالحة، وكلوها صالحة، كما روي عنه أنه قال: خرج رسول الله في حاجة، فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟، فابتُغِي فلم يوجد، فقال صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، ثم اركبوها صحاحا واركبوها سمانا، وهذا يقتضي وجوب الأمر بركوب الدواب واستعمالها فيما خلقت له حال كونها صحيحة البدن صالحة للاستعمال ليست تعاني من جوع أو عطش، فمن تنكب عن ذلك فاستعملها عند مرضها أو حال هزالها وضعفها أو حال جوعها وعطشها فهو آثم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سخط صنيع صاحب هذا البعير، وأمر باستعمال هذه الدواب في الحالات المشار إليها آنفا، مما يقتضي وجوب الامتثال لذلك، وهذا وغيره دليل دامغ على مراعاة الإسلام لعلاقة الآدميين بما سخره الله تعالى لنفعهم من الدواب، بحيث نظم هذه العلاقة، وحد حدودها، وجعل لهذا الاستعمال ضوابط، من شأنها الرفق بهذه الدواب ورحمتها عند استعمالها، وهذا جانب من الجوانب التي تسجل للإسلام سموه وحثه على السلوك السوي والرفق بالحيوانات، وتدحض ما يشيعه من أعمى الله بصائرهم ممن يسِمُون الإسلام بالوحشية وعدم الرحمة في معاملة الحيوان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"