الشاشة ومستقبل العرب

13:52 مساء
قراءة 6 دقائق

تطرح الشاشة وكأنها السوسة التي تنخر في رؤوس أمهات وآباء العرب، وتشغل، إذاً، وزراء الإعلام في البلاد العربية كمسألة في غاية الأهمية وعلى تماس مباشر مع الثقافة والإعلام ليس كميدانين لهما صفة تبعية أو ثانوية، يأتيان بعد الأنشطة البشرية الأخرى مثل السياسة والاجتماع والإقتصاد وتلك نظرة قديمة تقليدية مشوبة بالنظرة السريعة إليهما، بل كحقول متقدّمة تشغل رأس جدول اهتمامات الناس، وفي طليعة المنجزات الحضارية المعاصرة والمنقادة لمقولات العولمة حتى لتصح معاودة طرح السؤال الجوهري حول مستقبل السلطة أمام حضارة الصورة. لماذا؟

لأنّ الصحيفة كانت تضايق الحكومات والبرلمانات ولا تزال. وكان سلطان الحبر يزعج السلاطين، فقد منحت قداسة الكلمة في ثقافتنا الحبر مزيداً من السلطة. وقد خاض أهل الصحافة وناضلوا طويلاً قبل أن ينتقلوا بحبر الصحافة من الإحتقار الى الانتصار. وللتذكير: الصحافة هي صاحبة الجلالة majestas باللاتينية دلالة على الأنبياء والقديسين والملوك، وهي majesty بالإنجليزية وتعني الكبر والعظمة وصاحب العرش، له القوة والسلطان وواجب الإحترام والإجلال. وصحفه بالسيف يعني ضربه بعرضه لا بحدّه فيؤلمه من دون أن يجرحه، وتلك من صفات الصحافة الناجحة. كم مرّة نرى الصحافة تضرب بحدّ السيف والقلم وتترك الندوب من دون دماء تنزّ من الأجساد، وكأنها تضرب في اليباس مسؤولاً أو ظاهرة أو فكرةً أو فساداً؟ لماذا والجلالة في العربية لا تزال من جلّ أي تقدّم في السن وتعني الحجم الكبير والكبر في العين والموقع. أترانا في زمنٍ آخر؟ نعم.

منذ ديدرو(1713-1784) الذي رأى في الصحافة عجينة الجاهلين، ومنبع سلطات أولئك الذين يرسلون الكلام والأحكام من دون قراءة.. إنهم لم ينتجوا يوماً سطراً جيّداً لفكرٍ جيّد كما لم يحولوا دون إنتاج كاتبٍ رديء لمؤلف رديء، أو فولتير(1694-1778) الذي رأى فيها قصأًّ للتفاهات. أو قبلهما روسو (1712-1778) الذي اعتبر أن الصحافة تقدّم الى النساء والبلهاء الذين لا لغة لهم ولا ثقافة، الى الكاتب البريطاني ادمون بورك(1729-1797) الذي قاد النضال ضدّ فرنسا نابليون مطلقاً تسمية السلطة الرابعة على الصحافة ، بعدما ثبت قلق الحاكم وخوفه من الصحف بإعلان نابليون الهامس لمترنيخ: لا شيء يؤلمني ويثير خوفي أكثر مما تنشره الصحف، الصحافة روح الحكومة وسلطتها وقوّتها ووسيلتها الى الرأي العام في الداخل والخارج.. إنّها أمر اليوم ، ويساوي المقال الجيّد جيشاً من 300 ألف رجل .. هؤلاء يراقبون الداخل ولا يخيفون الخارج أفضل من دزّينتين من حثالات الصحافيين، وصولاً الى رافرتي كين rafferty Keen الكاتب الأمريكي الذي رأى في العام 1975 أنّه بالرغم من تراجع صاحبة الجلالة أمام تقنيات الصورة، فإنها لا تزال تفعل الكثير في حكم الدولة أكثر من البيت الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يحكم الرئيس أربع سنوات، بينما تحكم الصحافة الى الأبد.

قد يكون ميشال فوكو من المفكّرين الرواد الذين ربطوا ما بين القوة والمعرفة، ومنح السلطة بعداً اتّصالياً فرآها علاقة قوة بمعنى أنها كامنة في حال السلطة وممارستها وارتباطها بالآخر. وعندما تقوم القوة مع الآخر تصبح سلطة وعنها ينتج الرفض والخضوع والإخضاع بمعنى السيطرة. ليست القوة ،إذاً، في معناها الفج، بقدر ما هي قدرة التأثير فعلياً الأشخاص والأمور بهدف نشر أفكار وزعزعة نسق القيم لقاء أموال طائلة، وبالتماس مجموعة من الوسائل المغرية التي تتحركّ بين الإكراه والإقناع، وتتحول لتغدو إمكانية هائلة متاحةً لأحدهم داخل علاقة ما، تسمح له بتوجيه الأمور حسب مشيئته.

ويخفف هذا التوجه من سلطات الإعلام الناعمة الجميلة غير المباشرة، والتي لاتتجاوز نعومة خيوط العنكبوت العالمية في منظومةwww المعرفية، من غلواء القوة والتصدّي لها، باعتماد الإقناع والتماس الحيلة والدبلوماسية في إدارة العلاقات مع الآخرين، وتصبح السلطة فنّاً كاملاً وعلوماً وممارسة كما رآها جورج بالانديييه، بعدما رآها نيتشه تحقيقاً لإرادة القوة الطبيعية، أو إرادة القوة لدى فوكو أو سلطة الكتابة مع جيل دولوز،أو تحوّل ألثقافة بفضل وسائل الإعلام الى ما يشابه الميدان العام في بعض الشاشات مثلاً بمعنى الساحات المفتوحة الفالتة على العالم مع أنّ للساحات أعباءها في تاريخ بناء الأوطان والثقافة.

هذه التبادلية في الادوار المتعاظمة بين السلطات ووسائل الإعلام هي التي هشّمت كل ما يمتّ بصلة الى قدسيات الكتابة/ الثقافة/ العادات/ التقاليد/ اللغات/العلاقات واستعلائها.

ويكشف تفاعل هذه السلطات مع الصحافة عن مسائل جوهرية معلنة أو خفيّة عبر التاريخ، وخصوصاً في بلدان الوطن العربي والدول المماثلة، أقلّها ولاء الصحافة لها أو استعداؤها. وهما موقفان محكومان بالنظرة الى وسائل الصحافة من حيث كونها وسائل إقناع وتعبئة للرأي العام، أو وسائل ترويج ودعاية لمواقع السلطة أو وسائل تغيير ومبعث تحوّلات مختلفة. وترتفع أحجام هذه التحوّلات مع خروج الإعلام من قفص الصحافة المكتوبة أو خروجهما معاً من قفص السلطة الرابعة المحدَّد إلى تجليات سلطوية خارقة تتحكم في كيان الانسان المعاصر. وتتمثل هذه التجليات في التقنيات الضوئية الالكترونية الباهرة في جذبها للسلطات كلها، فلا تضاهيها أية سلطة أخرى، ولا تتجاوزها بالطبع، بل يبدو الإنسان معها أسير أقفاص الفردية حيث الربح السريع وتحقيق الذات الرقمية المنبهرة بالشكل من دون المضمون، وثقافة المايكروويف والريموت كونترول السهلة الذوبان وحيث السقوط الأكبر لمقولة الأخلاق والاتصال حتى لا نتذكّر التواصل بحنين نرجسي.

لقد تعاظم دور الإعلام إلى درجة باتت فيه الشاشة في وظائفها المرئية - المسموعة اللامتناهية قادرة، مثلاً، على نقل الأفكار والأشخاص وترسيخها فتجعل من مسألة عابرة قاعدة ثابتة ومن نجم رياضي أسطورة تتخطى في قوتها ومداخيلها الأفكار والعقول والتصورات القديمة، ومن سياسي سارق مثالاً في الأخلاق، ومن بغية محترفة عالماً من المثل والطهارة. إننا في تبادل أدوار ووظائف سلطوية بين الإعلام ومعاقل السلطة التقليدية، ولليهود باع هائل من النفوذ في هذا الميدان المرتكز على الإعلام والمال.

يرافق هذه السطوة الاعلامية أفول السلطات وانهياراتها، وتراجع رجالات السياسة واهتمام الناس بالسياسة والسلطة، وخصوصاً في بلاد نامية تتأرجح بين غياب الوقاية أو حضورها القاسي مع اليسر في الاعلام والمال بكلّ استعمالاتهما التي تصيب المجتمع بأكمله، فتأخذ الكلمة المباشرة رونقها وحياتها وحريتها مجدداً، بعدما بدت تخبو ثقافياً، لكنها الكلمة التي لا تستند إلى حلية أو قاعدة أو ضوابط ولا يردعها سوى وقاية الأهل وتحصين أولادهم لأننا كمن يقاتل المطر بهدف أن يحبسه وهو سيفشل حتماً ولو كان أكثر سلطة من وزارات العرب وغير العرب. لقد حاول الأوروبيون قبلنا وإلمانيا في الطليعة من ضبط الفضاء وفشلوا حتّى الآن في ضبط الفضاء أو رسم الحدود الفضائية القانونية فيما بين الدول كما الحدود الإقليمية والتي هي مستباحة وسقطت بفضل العولمة والحروب الرقمية الدائرة.

وإذ تتراجع المؤسّسات الدينية والتعليمية والعائلية، إذاً، كأساس يؤلّف سلطات تكوين الأفراد ومعارفهم وثقافاتهم وقِيَمهم، وتملأ وسائل الاعلام فيه هذا الفراغ الحاصل، فإنّ تداعيات شراء الذمم تصيب الأفراد لا في ثقافتهم بل في تطلعاتهم وجشعهم ولهفهم خلف الخدمات التي تشرّع المال وتنظم الفساد وتبرره في مقولتي الحربقة والشطارة وتظبيط الأوضاع، والشاطر ما يموت. والأخطر من كلّ ذلك أنّهم ينشدّون نحو فراغ آخر أكثر خطورةً وشمولاً، هو فراغ الوقوع في التبرير للفساد كثقافة جماعية تؤسس للانحلال. ويتبعهم في ذلك زعماء السياسة الطائفيون الذين كانت لهم وسائلهم التي رافقت حروبهم في الوطن وعلى الوطن العربي، وهم يطورون هذه المؤسسات وبعضهم يسبح فيها في عالم الفضاء الإعلامي بهدف المزيد من الربح والفساد والإفساد والتضليل والخداع. والمعلن الحصري، في هذا المجال، هو فوق كلّ سلطان. وقد تتجلّى خطورة هذا الإدراج المنظّم في دائرة الفساد وتداعياته على العرب مجتمعاً وعادات وتقاليد ومحكيات. هكذا نفهم في العالم المعاصر الدعوات اليومية إلى انتقاد الشاشات من على الشاشات، وانتاج الأفلام والصور والبرامج والأفلام التي تدعو إلى تحطيم التقنيات، وتخليص الانسان المعاصر من الأسطورية في وسائل الإعلام التي تولّد الهلع، والأمراض الفردية والاجتماعية، أقلّها التشظيات في الأفكار والعقول، والرخاوة الظاهرة في الألسنة والسلوك والتنبؤ بأجيال رخوة من دون تاريخ.

قفزت السلطة الرابعة في تطوّرها بالكلمة المكتوبة إلى تحقيق سلطات الصورة أي إلى منابع ظهورها الأوّل. وتتقدّم الصورة سلطة السلطات في عصر تنحسر فيه الكلمة إلى حدود المعلومة المضغوطة الإلكترونية، وتنحطّ القيم ويشيع الفساد وتتقدم حضارة المال وتتألق لذة السماع والبصر والذوق وتتراجع حضارات الأذن والأحاسيس والقيم، تحقق المجتمعات الرقمية الصامتة تنوعها اللامتناهي، وتذوي أوزان الهويات. إنّها مسائل خطيرة نراها وكأنها لم تزل بعيدة، لكنها مستعصية في آثارها الكليّة وتداعياتها المرتقبة على المجتمعات الطريّة النقيّة، ولا أدوية لها مهما هرشنا رؤوسنا.

كاتب وأستاذ جامعي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"