العلوم الكونية في خدمة الشريعة

الإسلام ومصلحة الإنسان
13:31 مساء
قراءة 3 دقائق

إن شريعة الله سبحانه وتعالى واحدة من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وهي الإسلام، دين الحق . فقال تعالى: ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (سورة آل عمران 85) .

فالشريعة الإسلامية هي المنهج الذي ارتضاه الخالق جل وعلا للناس جميعاً، فلا يستغني عنه الفرد في تهذيب نفسه وتقويم سلوكه، ولا الجماعة في تحقيق أهدافها وترشيد مسيرتها، ولا الدولة في رسم سياستها العادلة التي تلبي مصالح أفراد مجتمعها بتحقيق الخير لهم، ودرء المفاسد عنهم، في إطار القيم الإيمانية الهادية، قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (الأنعام 153) .

وإذا كان العلماء قد حددوا المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية في خمسة أمور تستقيم بها مصالح الناس، هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فإنهم اختلفوا حول ترتيب هذه المقاصد، ورأى بعضهم أنها مترابطة فيما بينها ترابطا محكما، بحيث يتوقف وجود بعضها على البعض الآخر، فلو عدم الدين لعدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش . أو بعبارة أخرى إن هذه المقاصد يؤثر بعضها في بعض، ويتداخل بعضها مع البعض الآخر، وإن حفظ بعضها ينعكس تلقائيا في حفظ البعض الآخر، وانخرام بعضها يؤثر في البعض الآخر، فهي أشبه بحلقات السلسلة الواحدة المنظومة الدائرية بديلا عن الترتيب التقليدي (راجع: د .جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي 2001) .

ولما كان الفكر المقاصدي هو الذي يمثل العدة العلمية (المبادئ والتقنيات والمفاهيم) التي يتوسل بها على مقاصد الشريعة، سواء تمثلت في المعاني والدلالات المقصودة من خطابها، أو في الغايات والأهداف المصلحية المقصودة من تشريع أحكامها العملية والاعتقادية، فإنه أي الفكر المقاصدي بذلك يعد جانبا أساسياً من الثقافة الفقهية والأصولية، باعتباره ممارسة اجتهادية في الشريعة الإسلامية من حيث إنها خطابات أمرنا بالسعي المستمر للإفادة من معانيها، وبوصفها كذلك أحكاما عملية تنطوي على غايات مصلحية تقاس مشروعيتها بمدى تطابقها مع الفطرة الإنسانية النقية بحسب ما يقصده الشارع، ويعتمد الوصول إلى أحكامها العامة على الاستقراء طريقة علمية للتتبع والإحصاء والتحقيق والتفنيد والمراجعة المستمرة .

وهكذا فإن استقراء التصرفات الشرعية من زواج وإرضاع، وآداب في المعاشرة، وأحكام في حفظ النفس والإنسان والأموال، يفضي إلى أنها مسايرة للفطرة، إما لأنها تقيمها في أنفس المكلفين، وإما لأنها تحميها من الانحراف، ومن ثم فإنه لا يمكن تفقه الشرع الإسلامي إلا على أساس دقيق وواضح من الوعي العميق لمكونات الفطرة الإنسانية .

وكان من جملة ما نبه إليه الإمام ابن عاشور رحمه الله في بيان أهمية الفطرة قوله: إن كل فعل يحب العقلاء أن يتلبس به الناس، وأن يتعاملوا به، فهو من الفطرة وكل فعل يكرهون أن يقابلوا به، ويشمئزوا من مشاهدته وانتشاره، فهو انحراف عن الفطرة، فإذا تعارض فعلان أو خاطران مما تقتضيه الفطرة، وجب اختيار أعرقهما في المعنى الفطري، أو أدومهما، أو أشيعهما في الناس، أو أليقهما بالإشاعة في البشر، على أنه أمكن رعي أحد الفعلين في بعض الأزمان أو بعض الأمكنة أو لبعض الأمم، مادام يتصل بحاجة الناس الملحة، فإذا ضعفت الحاجة إليه رجع إلى غيره .

أما ترسيخ المنهج العلمي عموما في الانتقال من تصفح الجزئيات والحكم عليها، ثم الارتقاء من النظر في حالات وأحكام جزئية إلى حكم عام في فهم ظواهر الكون والحياة موضوع البحث والاستفادة منها، فإن علماء الأصول، خاصة أهل المقاصد منهم، قد اعتمدوه في بناء أنساقهم المختلفة، باعتباره أداة مهمة من أدوات الفكر المقاصدي في الإسلام، وسوف نعرض في المقالات التالية إن شاء الله تعالى لبيان الدور الذي يمكن أن تؤديه العلوم الكونية وتقنياتها في خدمة الشريعة الإسلامية وتفعيل مقاصدها في الواقع المعيشي، ولبيان أهمية كل من السنن الكونية والمنهجية العلمية في الفكر المقاصدي.

www.afbasha.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"