الوفاء قيمة إنسانية غرسها الإسلام في النفوس

14:11 مساء
قراءة 6 دقائق

حرص الإسلام على بناء شخصية المسلم على قيم وأخلاقيات رفيعة حتى تستقيم حياته، ويؤدي رسالته في الحياة، ويسهم بفاعلية في بناء ونهضة مجتمعه، ويواجه بقوة وصلابة كل التجاوزات الأخلاقية عملاً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

والإسلام في بنائه الأخلاقي للإنسان جاء بكل ما هو راق ومتحضر، وسما بأخلاق أتباعه فوق كل الصغائر، ورسم للإنسان حياة راقية تغلفها كل المعاني الإنسانية .

ونحن من خلال هذا الباب نسبح في بحر الأخلاق والقيم الإسلامية الرفيعة لنذكر الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين أن رقيهم وتحضرهم وإنسانيتهم العالية تكمن في أخلاقيات الإسلام، وأن ما نعانيه الآن في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية من انفلات أخلاقي وبلطجة سلوكية سببه الرئيس ضعف الوازع الديني، واختفاء قيم وأخلاق الإسلام من حياتنا .

موعدنا اليوم مع قيمة إنسانية رفيعة، وخلق إسلامي لا يتصف به إلا أصحاب النفوس الكريمة، وهو خلق الوفاء، وقد أولاه الإسلام أهمية كبيرة في منظومته الأخلاقية الرائعة، وذلك لما له من أثر عميق ودور كبير في حياة الناس، أفراداً وجماعات وأمماً وشعوباً .

وقد احتفى القرآن الكريم بكل ما يعمق من خلق الوفاء وجاء استعمال هذا المفهوم في آياته على وجوه متعددة، فهناك وفاء بعهد الله، وهناك وفاء بالعهد على نحو مطلق، وهناك وفاء بالعقود، أو وفاء في الكيل والميزان، أو وفاء بالنذر، كما جاء مفهوم الوفاء في آيات قرآنية كثيرة في مقابل نقض المواثيق والعهود، وهذا يدلنا كما يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة على اتساع مساحة الوفاء في منظومتنا الإسلامية . . فالأمر لا يتعلق بعلاقة بين صديقين فحسب، وإنما الأمر يشمل جميع العلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب ويتجاوز الدائرة الضيقة بين فردين إلى دائرة أوسع تشمل الإنسانية كلها .

تنمية الإيجابيات

ويدخل في إطار الوفاء المطلوب من المسلم، الوفاء لماضي الأمة وتراثها، وتاريخها، فلا يجوز للمسلم أن يتنكر لماضيه، فالذي ليس له ماضٍ لا مستقبل له، والوفاء لماضي الأمة وتراثها لا يعني كما يوضح الدكتور عبد المقصود باشا، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة الأزهر، تقديس هذا الماضي وتبرئته من كل العيوب، وإنما المقصود هنا ألا يفصل المرء بين يومه وأمسه، فالزمن حلقات متصلة ومن أجل ذلك لا يجوز أن تكون هناك قطيعة مع هذا الماضي لأنه يشتمل على الجذور، وفصل جذور الشجرة عن ساقها يميتها .

إذاً الوفاء للماضي يعني الحفاظ على الهوية وتنمية الإيجابيات التي يشتمل عليها الماضي وتجنب السلبيات، إضافة إلى مراعاة متغيرات العصر، وهذا ما يطلق عليه البعض الجمع بين الأصالة والمعاصرة .

ويدخل في مفهوم الوفاء أيضا الوفاء لعلماء الأمة ومفكريها وعظمائها ممن قدموا للوطن خدمات جليلة، والوفاء لهم يكون بإحياء ذكراهم والاعتراف بفضلهم، وتعريف الأجيال الجديدة بجهدهم وتضحياتهم وعطائهم، وبذلك نقدم لهذه الأجيال نماذج مشرفة يقتدون بها ويحذون حذوها في البذل والعطاء الأمر الذي يعود بالخير على الوطن وكل من يعيش فيه .

ويرتبط خلق الوفاء بأخلاق أخرى لا تنفصل مثل الصدق والتقوى، ولذلك جاء حديث القرآن الكريم في وصف الموفين بعهودهم والصابرين بأنهم الذين صدقوا وبأنهم المتقون: أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .

وإذا كان الوفاء بالحقوق والعهود والمواثيق أمر يحتمه الإسلام فإنه لا يفرق في هذا الصدد بين المسلمين وغير المسلمين، فالأخلاق الإسلامية لا تتجزأ ولا يجوز أن تطبق بطريقة انتقائية .

قسم بعض العلماء الوفاء إلى أنواع:

- الوفاء مع الله: فعلى المسلم أن يكون وفياً بعهده مع الله في أن يعبده وحده لا يشرك به شيئاً، وأن يبتعد عن طريق الشيطان الذي يدفعه إلى ارتكاب المعاصي .

- الوفاء بالعقود والعهد: فالإسلام يوصي باحترام العقود وتنفيذ الشروط التي تم الاتفاق عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون عند شروطهم .

- الوفاء بالكيل والميزان: فالمسلم يفي بالوزن فلا ينقصه، لأن الله تعالى قال: أوفوا بالمكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم .

- الوفاء بالنذر: فالمسلم مطالب بالوفاء بنذره وأداء ما عاهد الله عليه، ومن صفات أهل الجنة أنهم يوفون بالنذر، يقول الحق سبحانه وتعالى: يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً .

- الوفاء بالوعد: فالمسلم مطالب بأن يفي بوعده ولا يخلفه، والرسول يحذر من نقض الوفاء بالوعد ويعتبره من أخلاق المنافقين فيقول: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.

مصدر ثقة

يقول الدكتور أحمد عمر هاشم أستاذ السنة النبوية في جامعة الأزهر: الوفاء فضيلة حث الإسلام عليها ووصى بها كل بني أمته، فعلى ضوئه يثق الأفراد والجماعات بعضهم في بعض، وتجري العلاقات الإنسانية بينهم بروح الأخوة والمحبة، قال الله تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً . وقال سبحانه وتعالى: وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون .

والوفاء بالعهد من أهم المبادئ التي يقوم عليها بناء الشخصية الإسلامية، ونقض العهد يؤدي إلى الضياع والخسران، ومن وثق عهده بيمين أو باتخاذ الله كفيلا فهو عهد مع الله، ونقضه إنما هو نقض لعهد ربه، وقد شبه القرآن من ينقض العهد بالحمقاء التي تغزل غزلها ثم تنقضه أوصالا وأجزاء، وربما يكون من بواعث نقض العهد، أن يجد أمة أكثر وأوسع من أخرى، فلا يصح أن يكون هذا باعثا لنقض العهد، قال الله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها . . . .

ونقض العهد ليس من سمات المسلمين، إنه يقضي على بناء الشخصية ويعمل على اهتزاز الثقة وتمزيق العلاقات، بل إن نقض العهد من علامات النفاق، وفي الحديث الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان؟ وإذا حدث كذب؟ وإذا عاهد غدر، وإذ خاصم فجر .

والإنسان الوفي موطن الثقة بين الناس، يقبلون على معاملته، ولا يرتابون في وعده، وإنما يصدقونه ويحبونه، ويخلصون له الود، وشخصيته بينهم مرموقة، فهو موضع تقديرهم واحترامهم، يبادلونه حباً بحب ووفاء بوفاء . والمسلم الصادق الوفي هو الذي يكون عند عهده ووعده .

ولأهمية الوفاء بالعهد كما يقول د .هاشم في بناء المجتمع الإسلامي وضّح الإسلام مغبة ما يؤول إليه شأن من نقض العهد من العذاب الأليم، وفي مقابل ذلك بيّن أن عند الله مثوبة وفضلا لمن تحلى بالوفاء وتجمل بالصبر عليه مهما كلفه من مشقة وعناء، وأما الذين اشتروا بعهد الله ثمنا قليلا وآثروا العاجلة فإن ما عندهم ينفد فلا بقاء ولا استمرار معه ولا خير فيه، قال الله تعالى: ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتنزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم . ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

تربية أخلاقية

يقول المفكر الإسلامي، الدكتور محمود حمدي زقزوق، الأستاذ في كلية أصول الدين، وزير الأوقاف المصري الأسبق: انطلاقا من الأهمية القصوى لخلق الوفاء في بناء العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات وعلاقات الشعوب بعضها مع بعض اهتم الإسلام به اهتماماً لا حدود له . وقد جاء استعمال مفهوم الوفاء في القرآن الكريم على أنحاء مختلفة . فتارة يأتي وفاء بعهد الله، وتارة وفاء بالعهد على نحو مطلق وعام، وتارة يأتي وفاء بالعقود، أو وفاء في الكيل والميزان، أو وفاء بالنذر، كما يأتي في نقض المواثيق، وهذا يدلنا على اتساع مساحة الوفاء، فليس الأمر يتعلق بعلاقة بين صديقين فحسب، وإنما الأمر يشمل جميع العلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب، ويتجاوز الدائرة الضيقة بين فردين إلى دائرة أوسع تشمل الإنسانية كلها . ويضيف: لقد وضع القرآن الكريم أمامنا أسمى نموذج في الوفاء متمثلا في وفاء الله بعهده لعباده: ومن أوفى بعهده من الله، فليس هناك في حقيقة الأمر من يستطيع الوصول إلى هذه المرتبة العليا في الوفاء المطلق . ولكن ليس معنى ذلك ألا نبذل قصارى جهدنا في السعي الحثيث نحو الوصول إلى هذه الغاية . فالمثل العليا تمثل، بالنسبة لنا، نماذج قصوى ينبغي أن نسير على هداها وأن نقتدي بها في سلوكنا وفي كل ما يصدر عنا من أقوال وأفعال .

والقيمة السلبية المقابلة للوفاء هي الغدر والجحود، ونكران الجميل ونقض العهود والمواثيق . ومن هنا جعل النبي عليه الصلاة والسلام خلف الوعد وعدم الوفاء علامة من علامات النفاق، بل يصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك بانتفاء صفة الدين عمن لا يفي بعهده.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"