انقطاع الوحي

هذا رسولنا
13:58 مساء
قراءة 7 دقائق

كان محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام يتحول من مجرد باحث عن الحق، إلى حامل لهذا الحق، ومن طالب هداية، إلى داعية هدى، ومن رافض لدين قومه، إلى مبلغ لدين ربه، وكان تفكيره صلى الله عليه وسلم ينصب حول تلك المهمة الجديدة، التي لم يكن ينتظرها.

فزع من نزول الوحي عليه، وتحير من الأمر بعد أن أقرأه أمين الوحي أول آيات الله نزولاً.

كان في حاجة إلى فترة يسترجع فيها روعه، ويطمئن فيها قلبه بعد ما حدث له من الرعب الذي حكاه لأهله، وأن تعود إليه طمأنينة نفسه، وصفاء قلبه، ويعاود ما كان اعتاد عليه من عبادة التفكير والتأمل فيما نزل عليه من آيات الله.

كان الروع الذي تمكن من النبي صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة إثبات لبشريته قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً، وهو لا يتنافى مع عصمته، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة:لقد خشيت على نفسي وتكلم العلماء في معنى هذه الخشية بأقوال كثيرة، قيل إن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله عز وجل، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه مجنون، وقيل خشي من ألا ينهض بأعباء النبوة، وأن يضعف عنها، ثم أزال الله خشيته ورزقه القوة، والثبات، والعصمة، وقيل إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو فإنه بشر يخشى من القتل، ثم يهون عليه الصبر في ذات الله كل خشية.

ونقول إن القرآن الكريم يقص علينا وقائع خوف موسى عليه السلام: (وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون) (النمل10)، ولما أمر أن يذهب إلى فرعون وقومه ليقول لهم أرسلوا معي بني إسرائيل: (قال رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون. ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) (الشعراء 12 14).

وقد عبر نبي الله موسى عن خوف مركب: (أخاف أن يكذبون، وأخاف أن يقتلون، وأخاف ألا ينطلق لساني)، ولا شك أن تخوف موسى عليه السلام أو تخوف نبينا صلى الله عليه وسلم من تلك اللحظة التي يقبل عليها الرسول تخوف بشري وطبيعي، وهو في المقام الأول خوف الحريص على توصيل رسالة ربه، وحرص الراغب في القيام بها خير قيام: (قال رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري. واحلل عقدةً من لساني. يفقهوا قولي. واجعل لي وزيراً من أهلي. هارون أخي، اشدد به أزري. وأشركه في أمري)، فهو يطلب من يساعده على القيام بما أرسل له: (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون) (القصص34).

ولما نزل رسل ربنا إلى إبراهيم عليه السلام نكرهم وأوجس منهم خيفة: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) (هود70)، إذاً، فالخوف أمر يستقيم مع بشرية الرسل، ولا ينافي عصمتهم ولا صلاحيتهم، معاذ الله، ولكنه شعور إنساني، فضلا عن كونه حرصاً على تبليغ رسالة الله التي أوكلها إليهم.

من الخوف إلى الحزن

وقد ذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وحصل له التشوف إلى العود، لما تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أضحى نبياً لله، وأن من جاءه بالغار هو سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار يتشوف ويرتقب مجيئه من جديد، وكما كان يفعل من قبل نزول الوحي، لم ينقطع عن الذهاب إلى الخلوة، ولعل عودته إلى الغار، يدل على أن خوفه الأول قد زال، وأنه يتوقع لقاءً آخر مع الوحي.

ومضت أيام وراء أيام من دون أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، فحزن لذلك حزناً شديداً، وانتقل من حال الخوف إلى حال الحزن، وامتد ذلك الحزن خلال المدة التي تسمى في كتب السيرة: (فترة الوحي)، التي تلت نزول الآيات الأولى من سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق).

واختلف علماء السيرة في مدة انقطاع جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اللقاء الأول في غار حراء، فمن قائل إنها كانت أياماً، وقيل إنها كانت ستة أشهر، وقيل إن الأقرب إلى الصواب هو ما روى عن ابن عباس أن فترة انقطاع الوحي كانت أربعين يوماً، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفاً فليس بصحيح.

وقال صفي الرحمن المباركفوري: وقد ظهر لي شيء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم، ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهراً واحداً، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة، وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحاً، أي لأول يوم من شهر شوال، ويعود إلى البيت.

وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحي الذي نزل بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر، أقول: هذا يفيد أن الوحي الذي نزل بعد الفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحي، لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول الوحي كان في ليلة الاثنين الحادي والعشرين من شهر رمضان، فإن هذا يعني أن فترة الوحي كانت لعشرة أيام فقط، وأن الوحي نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة، ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف، وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد، والله أعلم.

رواية الزهري

والروايات الصحيحة متفقة على حزن النبي صلى الله عليه وسلم من انقطاع الوحي، وذهبت إحدى الروايات المنكرة إلى أن حزن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى حد أنه حاول أن يتردى من شواهق الجبال، وجاء في واحدة من روايات البخاري في كتاب التعبير ما نصه: (وفتر الوحي فترةً حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً عدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي، غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك).

وردت قصة بدء الوحي على كيفيات مختلفة في البخاري ومسند الإمام أحمد ومصنف الإمام عبد الرزاق وغيرهم، لكن الناظر إلى رواية الإمام الزهري يجد أنها باطلة، ووجه ذلك أن معظم روايات هذا الحديث لم تذكر ذلك الحدث، وقد روى الإمام البخاري حديث نزول الوحي أكثر من مرة في صحيحه دون أن يشير إلى هذه الزيادة التي رواها عن الزهري.

وفي هذا يقول الحافظ بن حجر ما نصه: ثم إن القائل (فيما بلغنا) هو الزهري، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة هو من بلاغات الزهري وليس موصولا، فحكم هذه الزيادة الإرسال، ومرسل الإمام الزهري ضعيف عند أهل الحديث، يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، كلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه، وقال أيضاً عنه: هو بمنزلة الريح.

والحادثة المذكورة قد اجتمع فيها الشذوذ في السند، والنكارة في المتن، وقد ضعف الشيخ ناصر الدين الألباني هذه الجزئية من الحديث لكونها من بلاغات الزهري، وأنها تتنافى مع عصمة الأنبياء، ويقول الدكتور محمد أبو شهبة: هذا النص، وهذه الرواية ليست على شرط الصحيح لأنها من البلاغات، وهي من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، والبخاري لم يذكرها إلا مرة واحدة لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي وتفسير سورة اقرأ الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة.

ومما يبين ضعف القصة: أن الرواية ذكرت أن سبب الرغبة في الانتحار، إنما كان خوفاً من انقطاع الوحي والرسالة، ولو كان هذا صحيحاً، لكان ظهور جبريل عليه السلام مرة واحدة وقوله: (إنك لرسول الله حقاً) كافياً في تأكيد أنه مبعوث إلى العباد وتحقق الاصطفاء له، فلا معنى لأن يدخل الحزن في قلبه وأن يحاول الانتحار مرات ومرات كما في رواية الزهري.

اتهامات باطلة

وهذه الشبهة وردت في ثلاث روايات، واحدة في طبقات ابن سعد من طريق محمد بن عمر الواقدي، ومعلوم عند علماء الجرح والتعديل أن الواقدي متروك الحديث، ومن المعلوم أن وجود راو متروك في حديث، يجعله مردوداً غير قابل للتصحيح بالشواهد الأخرى.

والثانية رواية الإمام الطبري في تفسيره وهي مردودة سنداً ومتناً، فالمتن فيه نكارة ظاهرة، والسند فيه علل كثيرة، أولها الإرسال، فإن عبيد بن عمير ليس صحابياً، إنما هو من كبار التابعين، كما أن في السند راويين متكلما فيهما: سلمة وهو ابن فضل الأبرش قال عنه الحافظ ابن حجر: صدوق كثير الخطأ، وابن حميد الرازي كذبه جماعة من العلماء كأبي زرعة وغيره.

والغريب أن كثيراً من كتب السيرة الحديثة والقديمة تمر على هذه الحادثة مرور الكرام، وتثبتها كأن البخاري أخرجها في صحيحه، وهي بين أمرين، بعضها لا يعلق عليها تسليماً بصحتها رغم شذوذها البين، والبعض الآخر يجهد نفسه في تبريرها ومحاولة تمريرها على العقل بكثير من التعسف، رغم أن أهل الحديث يسقطونها ولا يعتدون بها سنداً ولا متناً، فضلا عن التناقض الواضح بين أجزائها.

وللأسف أننا تركناها سهماً في كنانة أعداء الإسلام يوجهونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاصدين بذلك الانتقاص من حقه، والإقلال من قدره، وينشرونها تحت عناوين فجة واتهامات باطلة لا تصمد أمام البحث الجاد، ولا تصلح للطعن فيمن شهد له أعداؤه قبل محبيه بسمو أخلاقه ورجاحة عقله وطهارة روحه، قبل أن يكون رسول الله ونبيه وحبيبه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"