توبة "الوقت الضائع" لا يقبلها الله

"فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا"
13:41 مساء
قراءة 5 دقائق

العديد من آيات القرآن الكريم تحض المسلمين على التوبة الصادقة وتؤكد لهم أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه لكل التائبين المخلصين مهما كانت الذنوب والمعاصي التي ارتكبوها .

وواجب المسلم العاصي وفقاً لتوجيهات القرآن الكريم أن يبادر بالتوبة عقب ارتكاب الذنب أو اقتراف الإثم، وألا يؤخر توبته إلى أواخر عمره، فلا يدري أحد متى ينتهي أجله وقد يباغته الموت فجأة كما يحدث دائماً في أغلبية الناس الذي يلقون ربهم من دون مرض ومن دون مقدمات ويفوت الإنسان على نفسه فرصة التوبة .

هنا ينبهنا الحق سبحانه وتعالى إلى الإسراع بالتوبة فيقول عز وجل في سورة النساء إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً .

التوبة - كما عرفها العلماء - هي الرجوع إلى الله تعالى، وإلى تعاليم الدين بعد التقصير فيها مع الندم على هذا التقصير والعزم على عدم العودة إليه .

والمراد من الجهالة في قوله سبحانه وتعالى يعملون السوء بجهالة الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، لأن من لا يعلم لا يحتاج إلى توبة .

ومعنى الآية الكريمة أن قبول التوبة كائن ومستقر على الله تعالى لعباده الذين يعملون السيئات ويقعون في المعاصي بجهالة . أي يعملون السوء جاهلين سفهاء، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل .

وهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يبادرون بالتوبة قبل حضور الموت، يقبل الله توبتهم وهو سبحانه وتعالى عليم لا يخفي عليه صدق التوبة .

لا يخلف الله وعده

وعبر سبحانه بلفظ على الله للدلالة على تحقق الثبوت حتى لكأن قبول التوبة من هؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب من الواجبات عليه، لأنه سبحانه قد وعد بقبول التوبة . وإذا وعد بشيء أنجزه، إذ إن الخلف ليس من صفاته سبحانه، بل هو محال في حقه .

وقوله: ثم يتوبون من قريب أي ثم يتوبون في زمن قريب من وقت عمل السوء ولا يسترسلون في الشر استرسالاً ويستمرئونه ويتعودون عليه من دون مبالاة بارتكابه . . ولا شك أنه متى تاب الإنسان توبة صادقة في أعقاب ارتكابه للمعصية كان ذلك أرجى لقبولها عند الله تعالى، وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله سبحانه: من قريب فقال بعضهم: المراد به القرب من زمن وقوع المعصية، وقال البعض الآخر: المراد القرب من زمن الموت . . ووفّق بعض المفسرين بين الرأيين وأظهروا أنه لا تعارض بينهما لكنهم اتفقوا على أن العاقل من الناس هو الذي يبادر بالتوبة الصادقة عقب المعصية بلا تراخٍ لأنه لا يدري متى يفاجئه الموت ولأن تأخيرها يؤدي إلى قسوة القلب، وضعف النفس، واستسلامها للأهواء والشهوات .

وقوله سبحانه: فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيما بيان للوعد الحسن الذي وعد الله به عباده الذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب . . أي: فأولئك المتصفون بما ذكر، يقبل الله سبحانه توبتهم، ويأخذ بيدهم إلى الهداية والتوفيق، ويطهر نفوسهم من الذنوب، وكان الله عليماً بأحوال عبادة وبما هم عليه من ضعف، حكيماً يضع الأمور في مواضعها حسبما تقتضيه مشيئته ورحمته بهم .

توبة مرفوضة

ثم بين سبحانه وتعالى من لا تقبل توبتهم فقال: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن، ولا الذين يموتون وهم كفار . . أي: وليست التوبة مقبولة عند الله بالنسبة إلى الذين يعملون السيئات ويقترفون المعاصي، ويستمرون على ذلك حتى إذا حضر أحدهم الموت بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا وانقطع منه حبل الرجاء في الحياة قال إني تبت الآن أي: قال في هذا الوقت الذي لا فائدة من التوبة فيه: إني تبت الآن .

وقوله: ولا الذين يموتون وهم كفار أي وليست التوبة مقبولة أيضاً من الذين يموتون وهم على غير دين الإسلام .

فالآية الكريمة - كما يوضح الداعي الإسلامي الشيخ خالد الجندي - نفت قبول التوبة من صنفين من الناس:

أولهما: الذين يرتبكون السيئات صغيرها وكبيرها، ويستمرون على ذلك من دون توبة أو ندم حتى إذا حضرهم الموت، ورأوا أهواله قالوا: (توبتنا الآن) فهذه التوبة بلا فائدة لأنها ليست خالصة لوجه الله . . بل وسيلة للهروب من عقاب الله على المعاصي والذنوب التي ارتكبوها . . ويؤكد هذا المعنى قول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وقول الحق سبحانه وتعالى حكاية عن فرعون: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية .

وعدم قبول توبة هؤلاء في هذا الوقت سببه أنهم نطقوا بها في حالة الاضطرار لا في حالة الاختيار، ولأنهم نطقوا بها في غير وقت التكليف .

أما الصنف الثاني الذي لا يقبل الله توبته منهم الذين يموتون على غير دين الإسلام، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة عبده ما لم يقع الحجاب . . قيل: وما الحجاب؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة . وكثير من العلماء يرى أن المراد بالفريق الثاني الكفار لأن العطف يقتضي المغايرة، ومنهم من يرى أن الفريق الأول شامل للكفار؛ ولعصاة المؤمنين فيكون عطف قوله ولا الذين يموتون وهم كفار من باب عطف الخاص على العام لإفادة التأكيد .

حتى لا تتراكم الذنوب

والآيتان السابقتان تدفعان المسلم دفعاً - كما يقول الشيخ خالد الجندي - إلى المسارعة في التوبة والتخلص من هذا الحمل الثقيل الذي تجلبه لنا المعاصي والذنوب . . ويقول: يجب على المسلم أن يسارع إلى التوبة لينال مغفرة الله ورحمته، فالقلوب العاصية والنفوس المتمردة هي التي تستمرئ المعاصي والذنوب وتصر عليها، وهؤلاء يحرمون أنفسهم من عفو الله ورحمته، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنه يقبل الذنوب جميعاً ويلتمس للإنسان الصادق في توبته أي فعل أو قول لكي يخلص من هذا العبء الثقيل ويفتح له صفحة جديدة بعد أن يطهره من السيئات والمعاصي التي اقترفها .

والهدايات التي ترشدنا إليها هاتان الآيتان كثيرة وأبرزها ضرورة المسارعة إلى التوبة وعدم الانشغال عنها حتى لا تتراكم المعاصي والذنوب، فالمسلم العاقل الحريص على إرضاء خالقه، الخائف من عقابه وعذابه، الطامع في جناته، هو الذي يتخلص من ذنوبه وآثامه أولاً بأول، وهذا الأمر سهل وميسور مادامت النوايا صادقة والقلوب مازالت ترتبط بخالقها ورازقها وواهبها الحياة .

نسأل الله عز وجل أن يغفر ذنوب كل العاصين والمذنبين الصادقين في توبتهم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"