"جميلة" "تعبئة" سينمائية لقضية سياسية

ضم كبار السينمائيين والكتّاب ولكنه لم يخلُ من السلبيات
13:35 مساء
قراءة 6 دقائق

عام ،1958 وبينما المد القومي يتألق ويتصاعد، وحلم الوحدة يتحقق ونجم العروبة يأخذ سمته في سماء العالم، ومصر المنتصرة في حرب السويس، وثورة العراق في أيامها الأولى، والنجاحات المتوالية للحرب التي تقودها جبهة التحرير الوطني في الجزائر، وضربات الثورة العربية تلاحق فلول الاستعمار أينما كان على الأرض العربية، في ظل ذلك كله، جاء فيلم جميلة للراحل الكبير يوسف شاهين ليلاحق الأحداث الساخنة على أرض الوطن، ويحاول أن يدفع بسلاح الفن إلى المعركة الشرسة مع الاستعمار وأعوانه في المنطقة.

في ظل هذه الظروف كان يوسف شاهين مازال يلعق جراحه بعد السقوط الجماهيري في حينه لفيلمه باب الحديد والذي يعد حالياً أحد العلامات المهمة في تاريخ السينما المصرية والعربية، حيث كان شاهين لايزال في مرحلة التجريب. فتلقف فكرة عمل فيلم عن جميلة بوحريد رغم وعيه السياسي المحدود آنذاك حين فكرت الفنانة ماجدة في استثمار هذه المناسبة القومية لإنتاج فيلم عن المجاهدة الجزائرية، تلعب هي بطولته وتساهم بشكل أو آخر في الدفاع عن جميلة، وتعبئة الرأي العام العربي والعالمي ضد بربرية الاستعمار الفرنسي، وحشدت للفيلم نجوما كبارا في مجال الكتابة، حيث كتب قصته الأديب يوسف السباعي، واشترك في كتابة السيناريو ثلاثة من كبار الكتاب والأدباء هم نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني، بالإضافة إلى السباعي، وربما كان هذا عنصراً سلبياً وليس إيجابياً، ما جعل الفيلم أقرب إلى الصيغة التجارية وأقرب إلى رواية بوليسية، بالإضافة إلى وجود الراحل المبدع عبد العزيز فهمي كمدير للتصوير.

ينقسم الفيلم إلى خمسة أقسام تبدأ بقسم تسجيلي درامي قبل العناوين، ثم جميلة من المدرسة إلى الانضمام إلى المجاهدين يتلوه جميلة والكفاح المسلح، والقسم الرابع هو الاعتقال والتعذيب لينهي الفيلم بالمحاكمة وأغنية النهاية.

يبدأ الفيلم بتقديم حماسي بصوت مذيع تلك الفترة أحمد سعيد رئيس إذاعة صوت العرب الأسبق، عن احتلال الفرنسيين للأرض الجزائرية واستخدامهم للجزائريين في الدفاع عن أرض فرنسا جنوداً في الجيش الفرنسي أثناء الحرب، ووعودهم الكاذبة للشعب الجزائري بالجلاء عن ترابه بعد الحرب، مع لقطات أرشيفية للجنرال ديجول بعد النصر.

ويؤكد التعليق على خداع الفرنسيين بعد أن دفع آلاف المواطنين الجزائريين أرواحهم ثمناً لوعد كاذب، تعيش جميلة طفلة وسط هذا الجو، في ريف الجزائر العاصمة، حيث يصر عمها مصطفى على أن تتعلم، إلى أن تصل إلى المدرسة الثانوية، لا تعرف شيئاً من أمر السياسة، ولا تدرك بوعي مأساة وطنها. ومن خلال أمينة زميلتها في الدراسة تتكشف لها عوالم أخرى، عوالم النضال والكفاح الذي يدور في حي القصية حيث تعيش، وتبدأ رحلة الوعي لديها بعد أن تشاهد وحشية الفرنسيين ضد زميلتها وضد مواطنيها، عن طريق يوسف قائد الكفاح المسلح في المنطقة. وبعد اكتشاف أن عمها هو الآخر، عضو في التنظيم، يتخلق الوعي عند جميلة بضرورة المشاركة، وتنضم إلى المجاهدين، في إطار الأعمال المدنية، وأثناء محاولة من المجاهدين لنقل السلاح يقبض على عمها، وحين يطلق العدو سراحه، في محاولة منه لكسب شعبية مزيفة للقاضي حبيب، الذي يعمل أيضا مع الثورة، بغير علم المستعمر يقتل العم مصطفى بيد قائد الفرقة الأجنبية في المدينة، وتنضم جميلة إلى معسكرات الثوار في جبال الجزائر، يواصل المجاهدون عملياتهم ضد المستعمر وخاصة بعد المذبحة التي راح ضحيتها ستمائة شهيد، وفي إحدى العمليات، وأثناء محاولة تأمين ترحيل يوسف وجماعة المقاتلين، يقبض على جميلة، وفي حوزتها خاتم جبهة التحرير، وتعترف بعضويتها في الجبهة وتواجه تعذيباً وحشياً جسدياً ونفسياً، كي تعترف على زملائها لكنها تصمد وتتصدى للفاشيين، ويضطرون تحت ضغط الرأي العام إلى عقد محاكمة عسكرية صورية، ويتولى الدفاع عنها رغما عن هيئة المحكمة أحد المحامين الفرنسيين، الذين يرفضون الفاشية، وانتهاك حقوق الإنسان، ويقفون مع العدل والحرية، وتضطر هيئة المحكمة إلى طرده من القاعة، ليخرج منها معلناً للرأي العام في فرنسا والعالم، مدى الظلم الذي تتعرض له جميلة، والقضية الجزائرية، لينتهي الفيلم بإصرار الجزائر على مواصلة النضال، ويرتفع صوت الشعب في كل مكان، الجزائر بلدنا.

ولأن الفيلم اعتمد الشكل البوليسي التقليدي، ولأن هذا الشكل له ميكانيزماته الخاصة، فهو يقوم في مجمله على التصاعد الرأسي للأحداث، بحيث لا يجنح كثيراً إلى تحليل الشخصيات والأحداث، وتبقى الشخصيات مجرد أدوات في لعبة التشويق، لذلك فإن الفيلم قد خلا تماما من التحليل لظاهرة الثورة وربطها بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل من فرنسا والجزائر، ودول العالم، كذلك فإنه شأن الأفلام البوليسية التجارية اعتمد على ظاهرة البطل الفرد، دون ربطه جدلياً وإنسانياً بالظروف التي أفرزته، وبجماعته النضالية، كذلك فإن الفيلم ركز على العلاقة العاطفية داخل الجماعات الثورية، بالإضافة إلى أنه صور الفرنسيين وخاصة الجنرال بيجار رشدي أباظة في صورة أحادية، فهو مجرد شرير، ساذج يمكن خداعه، وهذه آفة معظم الأفلام العربية التي تتناول السياسة أو الكفاح المسلح، بحيث يبدو العدو أبله في بعض الأحيان غريرا وساذجا وإن كان متوحشا، مما يحولها إلى نمط يفتقد المصداقية، وربما لذلك جاء الفيلم على هذا النحو، منشوراً دعائياً موجهاً إلى ضمير العالم للتضامن مع الثورة الجزائرية في نضالها العادل من أجل الحرية والاستقلال، وتحول المخرج العالمي يوسف شاهين من فنان إلى صحافي، يخاطب الرأي العام، ولهذا أيضا جاء الفيلم خالياً من التحليل واستخدام الأسلوب السهل والمباشر في طرح القضية الوطنية، ولم يربط بين الموقف السياسي والموقف الاجتماعي، والمنطقة الوحيدة التي كان صادقا فيها تماما، هي اعتبار القضية تهم كل الجزائريين بنفس الدرجة على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، أي من دون تقسيم طبقي، حيث انقسم المواطنون إلى وطني وخائن، وبحيث لم تعرف حرب التحرير الجزائرية التقسيمات الطبقية التقليدية وجاء ذلك متوافقا مع بيان الثورة، سواء عن قصد أو غير قصد، حيث خاطب البيان كل الجزائريين منذ اللحظة الأولى والذي حمل توقيع الأمانة الوطنية لجبهة التحرير الوطني.

وبرغم وجود مبدع كبير مثل الفنان عبد العزيز فهمي، مديراً للتصوير، إلا أن الفيلم لم يتح له أن يظهر قدراته الخاصة في استخدام الأبيض والأسود، والتعبير من خلال لغة الضوء وما تخلقه هذه اللغة من أضواء وظلال، إلا أنه حاول أن يخلق إيقاعاً خاصاً للصورة في بعض مشاهد المطاردات بين المجاهدين والقوات الفرنسية باستخدام الإضاءة والظلال، أما المونتير محمد عباس، فقد حاول خلق إيقاع متصاعد يتناسب مع بناء الفيلم، مع استخدام النقلات التقليدية من مزج واختفاء تدريجي وظهور تدريجي، ونجح في خلق نوع من التوتر، والقلق في مشاهد البار والمطاردات.

ويبدو أن يوسف شاهين جعل من جميلة بروفة أولى لفيلمه السياسي الضخم الناصر صلاح الدين حيث قدم الفارس أحمد مظهر، وهو ممثل اشتهر في تلك الفترة بأداء الأدوار الجادة، وقام بدور يوسف قائد المجموعة الفدائية، وهو الذي قام بعد ذلك بدور صلاح الدين، وقد اتسم أداؤه في جميلة بالصرامة والخطابية، وحتى اللحظات المفترض أنها رومانسية أداها بشكل جاف، وهو فهم مسطح لشخصية المناضل أو الفدائي، حيث إنه يكون جاداً متجهماً وبلا مشاعر ولا مكان في قلبه إلا للوطن، وقد حاولت ماجدة قدر موهبتها أن تكون جميلة، الإنسانة البسيطة المرحة التي تتحول إلى مقاتلة عنيدة وصلبة، وكانت تضحيتها في هذه الفترة بقص شعرها بشكل حقيقي مثار إعجاب الكثيرين من الجمهور، وجاءت مشاهد المحاكمة لتؤكد موهبتها، وإن حاول المخرج إضفاء ملامح جان داركية إن جاز التعبير، على طريقة الأداء والحركة.

كذلك فإن الدور القصير الذي أداه الفنان الراحل الكبير محمود المليجي، وهو غير ما اعتاده الجمهور في تلك الفترة من أدائه لأدوار الشر جاء مقنعا تماما، وساعده في ذلك قدرته على التحكم في مخارج الألفاظ وحركة يديه المحسوبة بدقة، أما صلاح ذو الفقار (في دور عزام) فلم يختلف أداؤه عن كثير من الأدوار التي أداها في تلك الفترة، الفتى المهزار الذي يخفي وراء هزله قدراً كبيراً من الجدية والشجاعة المبتسم والمتفائل بالحياة أو بالموت، كذلك فإن دور بيجار لم يكن فيه من المساحة ما يجعل الراحل رشدي أباظة متميزا شأنه شأن زهرة العلا (بوعزة) وحسين رياض (القاضي حبيب)، وقد أعطى يوسف شاهين الفرصة لوجهين جديدين هما محمد حمدي ومحمد أباظة، ولم ينجح الاثنان في أن يواصلا رحلتهما بشكل أفضل بعد ذلك، على عكس الفنانة نادية الجندي التي كانت مجرد كومبارس صغير في هذا الفيلم، وصارت فيما بعد واحدة من أكبر نجمات السينما المصرية.

هذا كله لم يمنع فيلم جميلة من أن يكون واحداً من أهم الأفلام التي أرخت لإحدى الثورات العربية ودور الكفاح المسلح الوطني في قضايانا العربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"