شعر النكبة الفلسطيني قبل 60 عاماً

رومانسية ثورية نفتقر إليها الآن
05:07 صباحا
قراءة 7 دقائق

قبل عقود عدة من وقوع النكبة، كان الشعر هو الأقدر وجدانيا داخل الحركة الأدبية الفلسطينية، على التنبؤ بها والتحذير الصارخ منها. وحين تم هذا الوقوع المدوي في العام ،1948 بنشوء إسرائيل فعليا على الأرض التي هُجّر وشُرّد أو قتل وأبيد سكانها ومواطنوها الفلسطينيون، كان الشعر ذاته مرة أخرى، هو الأسرع والأكثر استجابة للأحداث المتفجرة، من بقية أشكال الأدب، في الاشتعال التراجيدي بالغضب وشحذ الهمم ضد النكبة، وضد الغزاة المغتصبين وأعوانهم وحلفائهم.

إلى ذلك، لا بد من العودة إلى تلك الشعرية الفلسطينية العميقة والمهمة بنبوءتها المبكرة، وصولاً بنا على ضوء مشاعلها القديمة، إلى الشعرية التي واجهت النكبة وعاشتها بأدق تفاصيلها الميدانية، وقد تحولت أمامها إلى واقع مادي يفرض جريمته الكبرى على كل شيء.

من أهم الشعراء الذين برزوا قبل النكبة، وتنبأوا بها، إبراهيم طوقان (1901- 1945)، وعبد الرحيم محمود (1913-1948)، وقد كانت قصائدهما الوطنية على شفاه جميع المواطنين الفلسطينيين وملء صدورهم، قبل العام 1948 وهي تعبر عن وجدانهم الجمعي في حتمية التنبه الشديد للخطر الصهيوني الاستعماري وضرورة مواجهته ومقاومته في بواكير تحركه العدواني، حتى لا يتحول إلى أخطبوط استيطاني ضخم يستولي على كل البلاد. ولم يفقد معظم تلك القصائد حيويته في الذاكرة الثقافية الفلسطينية إلى حينه، متواصلا من جيل إلى جيل، بسبب ما اشتمل عليه من صدق عميق، ومن شجاعة وطنية، ووعي مستقبلي مبهر لم ينطفئ أو ينكسر تحت ما كان سائدا بين زعماء وحكام تلك المرحلة من شعارات مضللة.

في قصيدته مناهج التي لا تتجاوز الأبيات السبعة فقط، يصرخ الشاعر إبراهيم طوقان بنبوءته المفزعة في العام ،1935 وكأنه في مخيلته الشعرية النفاذة، يرفع الغطاء كله عن النكبة قبل وقوعها بثلاث عشرة سنة:

أمامك أيها العربيّ يوم

تشيب لهوله سودُ النواصي

وأنت كما عهدتك لا تبالي

بغير مظاهر العبث الرخاص

مصيرك بات يلمسه الأداني

وسار حديثه بين الأقاصي

فلا رحب القصور غداً بباق

لساكنها ولا ضيق الخصاص

لنا خصمان: ذو حول وطول

وآخر ذو احتيال واقتناص

تواصوا بينهم فأتى وبالا

وإذلالا لنا ذاك التواصي

مناهج للإبادة واضحات

وبالحسنى تنفذ والرصاص

والخصمان هما الصهيونية والاستعمار البريطاني، أو الانتداب البريطاني على فلسطين آنذاك، والذي تواصى مع الصهيونية في تنفيذ وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور في العام ،1917 لإنشاء ما أسماه بالزيف والغزو والاغتصاب الوطن القومي لليهود في فلسطين. فهل اختلف الخصمان بعد كل هذه العقود، ولو حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا، بخاصة وأن المناهج الجارية هي ذاتها الحاصلة من قديم إلى جديد، تارة بالحسنى المفاوضات السياسية، وتارة بالرصاص القتل والتدمير، وكلها في الحالين، تهدف وتعمل للاستيلاء على الأرض، وإبادة وتشريد أهلها الأصليين، لمصلحة المحتلين والمستعمرين الغزاة؟

وطوقان في مواجهة هذه المناهج لا يجد سوى شاعريته الحية يأوي إليها بالتغني الصادق والحار بالشهداء والفدائيين من جهة (قصائده: الثلاثاء الحمراء، الشهيد، الفدائي)، وبالسخرية الحادة من زعماء تلك الأيام من جهة ثانية، فيطالبهم بالتنحي قبل ضياع كل القضية:

أنتم المخلصون للوطنية

أنتم الحاملون عبء القضية

ما جحدنا أفضالكم غير أنا

لم تزل في نفوسنا أمنية

في يدينا بقية من بلاد

فاستريحوا كيلا تطير البقية

أما الشاعر عبد الرحيم محمود فإنه يجد إلى جانب هذه الشاعرية القوية والملهمة ذاتها، قدرته الذاتية الفذة على المشاركة فعليا بالثورة المسلحة ضد الأعداء، فيستقيل من وظيفته كمعلم في مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، وينخرط في صفوف المجاهدين، ليستشهد في معركة الشجرة بين طبريا والناصرة في 13 تموز/يوليو 1948 بعد إعلان نشوء إسرائيل بشهرين فقط، وبعدما كانت قصائده تعم البلاد كلها، بما فيها قصيدته المذهلة التي كان تنبأ فيها بسقوط المسجد الأقصى في مخالب الاحتلال الإسرائيلي.

وفي 18/8/1935 كتب عبدالرحيم محمود قصيدته نجم السعود التي يستقبل بها الأمير سعود بن عبد العزيز وهو في طريقه إلى زيارة بيت المقدس (القدس) في ذلك اليوم، والتي اشتملت على تلك النبوءة المفجعة:

المسجد الأقصى أجئتَ تزوره

أم جئتَ من قبل الضياع تودعه

حرم يباح لكل أوكع آبق

ولكلّ أفاق شريد أربعه

وغدا، وما أدناه، لا يبقى سوى

دمع لنا يهمي، وسن نقرعه

اخترقت نبوءة هذا الشاعر الشهيد الزمن كله، من نكبة العام 1948 إلى هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 والتي فيها على وجه التحديد، سقط المسجد الأقصى تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو ضاع حسب تعبيره. فأي هول جارف في عبقرية هذا الشعر، على الاستشراف والمعرفة المستقبلية؟

أما بعد النكبة، فقد برز كثير من الشعراء الفلسطينيين والعرب، وهم يحملون في لهب قصائدهم، معاني حتمية العودة إلى الوطن السليب، ومعاني التصدي والصمود والثورة ضد المحتلين والمستعمرين، وضد المتواطئين والمتخاذلين. غير أن الشاعرين الفلسطينيين عبد الكريم الكرمي الملقب بأبي سلمى (1910-1980) وخليل زقطان (1930-1980)، كانا الأوسع انتشارا من غيرهما، على المستوى الفلسطيني في السنوات الخمس الأولى بعد النكبة على الأقل، ثم على المستوى العربي أيضا بالنسبة لعبدالكريم الكرمي، في السنوات اللاحقة.

عن مطبعة دار الأيتام في القدس، في العام ،1953 صدرت للشاعر خليل زقطان مجموعته الشعرية الأولى، تحت عنوان غير مألوف أو غير عادي، هو صوت الجياع. والواقع أن تلك المرحلة بأكملها، كانت غير مألوفة وغير عادية بوقوع النكبة التي زلزلت التاريخ العربي كله. فهل يمكن للشعر الوطني بالتالي، إلا أن يكون صدى مجلجلا لهذا الواقع، أو لهذه الزلزلة؟ وأي صدى أعمق من صوت الجياع اللاجئين الفلسطينيين الذين تناثروا في مخيمات البؤس والجوع والغضب والأحزان، بخاصة وأن هذا الشاعر نفسه واحد منهم، وجد نفسه فجأة في أحد هذه المخيمات التي أقيمت على عجل، على أطراف مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أطراف بعض مدن هذا القطر العربي أو ذاك، بعد أن هُجر هو وأهله، بقوة سلاح العصابات الصهيونية، من قريتهم زكريا الرابضة على السفوح الغربية لجبال الخليل، والتي نسفتها إسرائيل في العام ،1950 وسوتها بالأرض، ثم أنشأت على أنقاضها مستوطنة زخاريا؟

قبل الدخول إلى فضاء هذا الصوت، أتوقف قليلا عند المقدمة التي كتبها الشاعر نفسه لمجموعته، والتي يطلب منا قراءتها. نقرأ: ترددتُ قبل أن أدفع (هذا الكتاب المجموعة) إليك، لعلمي أنه لو خرج بالصورة التي كنت قد خلقته بها لقضي عليه في المهد، ولما سمعت له حتى الوجيب. ولكني إن أكن بعثته مسخا بالنسبة للصورة التي كان يجب أن يكون عليها، فذلك لاعتقادي أن وجود شيء أفضل من لا شيء...

ثمة رقابة ما على ذلك، خارجة عن إرادة الشاعر، كانت موجودة، وكانت تحاول خنق هذا الصوت منذ سنوات النكبة الأولى. وهل اختفت تلك الرقابة حقا، حتى في الذكرى الستين للنكبة، أم لبست لبوسات شتى في أشكالها الحديثة؟

نتجاوز غصة الراهن، إلى فضاء صوت خليل زقطان، بما أتيح له قبل أكثر من نصف قرن، من غضب ووجع وتمرد. ففي قصيدته قسما بجوع اللاجئين نقرأ:

أنا قد صحوت على الجراح تسيل من بعضي لبعضي

أنا قد صحوت وإذ أنا ملقى بأرض غير أرضي

أنا قد صحوت على العروبة تزدرى جهرا وتغضي

أنا قد نظرت المستجير وإذ به يا قوم عِرضي

ولكن زقطان يتمرد على هذا الجوع، ويدعو شعبه وأمته للثورة. ومن السهل أن ننصت لهدير هذا التمرد في معظم قصائده، ومنها أخي:

أخي إن شردوك اليوم عن أرض وعن سكن

وإن جاؤوك بالخبز لكي يلهوك بالمنن

فهذا الخبز أقساط تعوضها عن الوطن

أخي ما هذه الخيمات بعد القصر تُعطاها

وما هذي الجبال الجرد بعد السهل تؤواها

فلا ترضَ وإن زادوك، إلا الأرض إياها

ولا يتوقف هذا الهدير عند حق اللاجئين الفلسطينيين وحدهم في العودة وفي الحياة الكريمة، بل يتصاعد ويتوسع ليشمل حقوق كل البائسين والمعذبين في كل مكان، ما يحقق لهذا الشعر إنسانيته على مستوى كل الشعوب، كما في قصيدة أناشيد الشعوب:

للبائسين نذرت مجهودي وأوقفت اليراع

للخارجين من الظلام الزاحفين إلى الضياء

أرسلت شعري كي يطارحهم أناشيد الدماء

حتى إذا انتصرت قوى التحرير وانتظم البقاء

وتبسمت دنيا الشعوب وأمّن الكونُ الرخاء

فهناك أهتف بالقريض إلى الغناء....

وفي هذا الوقت الذي كان ينتشر فيه هذا الصوت المدوي في القدس، كان الشاعر عبد الكريم الكرمي يصدر مجموعته الشعرية الأولى بعد النكبة، في العام نفسه 1953 في دمشق، تحت عنوان المشرد. وهو بالضرورة عنوان مغاير تماما لكل ما كان يصدر من عناوين لمجموعات شعرية أو قصصية في العواصم العربية. ولكنه العنوان الأكثر صدقاً في صراحته ومباشرته للواقع الفلسطيني بعد النكبة وظهور مشهد آلاف المشردين والتائهين على وجهوهم من الفلسطينيين في العواصم العربية، وعواصم الدنيا كلها. في القصيدة الأولى من هذه المجموعة التي تحمل العنوان ذاته، نقرأ:

يا أخي أنت معي في كل درب

فاحمل الجرح وسر جنبا لجنب

قد مشيناها خطى دامية

أنبتت فوق الثرى أنضر عشب

نحن إن لم نحترق، كيف السنى

يملأ الدنيا ويهدي كل ركب

والكرمي يملك الجرأة للجهر بمعرفته أن سبب النكبة ناتج عن تواطؤ وتخاذل بعض زعماء الفلسطينيين، بقدر ما هو ناتج عن الصهيونية والاستعمار.

وفلسطين الباقية في وجدان هذا الشاعر لا بد أن تعود حقا بعودة شعبها المشرد إليها، في نهاية المطاف، طالما أن أحدا من هذا الشعب لم يعد قابلا بالخنوع، وبالقناعة بما يقررون. نقرأ في قصيدته نور ونار:

إيه فلسطين الجريح قفي على طهر الإزار

لا تسألي المستعمرين بل اسألي أهل الديار

يا أيها الشعب النبيل أمنتَ من شر العثار

أنت الذي تهدي السبيل من اليمين إلى اليسار

قررْ مصيرك أنت لا من يبصمون على القرار

وفي هذه الأجواء التي يحملنا إليها الكرمي، من قصيدة إلى أخرى، نمتلئ بإرادة متوثبة نفتقر إليها الآن، بعد ستين سنة من النكبة، في سياق غنائية رومانسية كانت توفر في صيغتها التفاؤلية رغم الظلام المحدق بها من كل جانب، أملا للشعب الفلسطيني، ولكل الشعوب العربية. ففي قصيدة سنعود نحس ببشائر العودة المحتمة للاجئين الفلسطينيين:

غدا سنعود والأجيال تصغي

إلى وقع الخطى عند الإياب

نعود مع العواصف داويات

مع البرق المقدس والشهاب

مع الأمل المجنح والأغاني

مع النسر المحلق والعقاب

ونحن الثائرين بكل أرض

سنصهر باللظى نير الرقاب

هل نملك في مرحلتنا الراهنة إرادة العودة الثقافية لمثل هذه التفاؤلية الشعرية على الأقل، في سبيل استنهاض الهمم المترنحة والمتفسخة تحت أثقال اليأس والإحباط والخوف؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"