قضية عبيدالله بن عمر

ثالث “الراشدين”
08:09 صباحا
قراءة 4 دقائق

تعتبر القيم الدينية، بالإضافة إلى القيم الأخلاقية والوجدانية هي الجوهر الأساس في بناء الأفراد والمجتمعات . ولهذا نرى أن الأمم التي بنت لنفسها أمجاداً في التاريخ القديم والجديد، كانت تقدم نفسها من خلال الاهتمام بهذا الجوهر الإنساني . فمتى ظهرت القيم في أمة من الأمم، فإنها سرعان ما تصبح مكسباً عظيماً لها لا شك في نفعها، فيعتدل الميزان وتعدل الأحكام وتحيا الأوطان . وقد كانت للعرب قيم قديمة وجديدة وهم ينهضون لبناء الدولة الفتية في الحقبة النبوية الشريفة، ومن ثم في الحقبة الراشدية التي تلتها . وكان الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من الرجال الذين حملوا القيم العربية الأصيلة الممدوحة قبل الإسلام، ثم لم يلبث أن أضاف إليها قيماً جديدة أرساها الإسلام والنبيّ صلى الله عليه وسلم في نفوس العرب المسلمين، وجعلهم يتخلون طوعاً عما يشين، ويسارعون بكل ثقة واقتدار لتزيين نفوسهم بكل ما هو خير ورزين .

ينتمي ذو النورين إلى الأمويين الذين اشتهروا بالفروسية والشجاعة والتجارة في الجاهلية، كما عرفوا بالحرص على المال، فلم يكونوا يبذلونه إلاّ لمأرب أو منفعة . ولهذا لا نرى أحداً منهم قبل الإسلام، ينهض بتكاليف المروءة والسخاء إلاّ منافرة لمن ينافسهم بين الملأ، وحرصاً منهم على أن يسبقوه إلى المجد والثناء . وعندما أسلم عثمان رضي الله عنه، كانت شهرته بالسخاء والأريحية عظيمة للغاية، إذ نراه ينزل عن ماله لتسيير جيش العسرة، كما ينزل عن ماله لشراء بئرٍ يستقي منها المسلمون بغير ثمن، وينزل عن ماله أيضاً لتوسعة مسجد المدينة الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ينزل عن ماله لحمل المغارم وإغاثة الملهوف والبر بالأقربين والأبعدين .

موقف خطير

ومما يروى عن سخاء عثمان رضي الله عنه، ما حدث في اليوم الأول من ولايته على المسلمين ففي ذلك اليوم كان ينظر في قضية كادت لخطورتها أن تحدث فتقاً بينهم، وذلك أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد سمع ما حدّث به عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو أنه رأى الهرمزان الأمير الفارسي الذي أسلم وسكن المدينة وجفينة النصراني يجتمعان مع أبي لؤلؤة المجوسي قبل مقتل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيوم واحدٍ وهما يتسامران معه ويتناجيان . وأنه لما أشرف عليهم، نهضوا فزعين، وسقط منهم خنجر له رأسان ويمسك من وسطه، وأن عبيد الله بن عمر عندما جيء بالخنجر الذي صرع به الفاروق، وجده بالصفة التي وصفه بها عبد الرحمن . ولذلك اشتعل عبيد الله بن عمر غضباً من هؤلاء الثلاثة لاعتقاده أن أباه إنما قتل بمؤامرة منهم . وأنهم شركاء في دمه . فأمسك حتى إذا مات عمر، اشتمل عبد الله على سيفه، وأتى الهرمزان فقتله، ثم مضى حتى أتى جفينة، فعلاه بالسيف بين عينيه . ثم ذهب فقتل ابنة أبي لؤلؤة .

وتمكن سعد بن أبي وقاص من أخذ سيف عبيد الله بن عمر منه، وحبسه في منزله حتى يهدأ غضبه، ومن ثم ينظر في أمره، ويحاكم بناءً لما يراه الإسلام والمسلمون أمام الخليفة الجديد .

والواقع أنه بعد أن انتهت بيعة عثمان وهدأ غضب عبيد الله بن عمر وغضب المسلمين، دعا الخليفة بعبيدالله بن عمر فمثل في مجلس الخلافة بالمسجد . وأراد أن يحكم المسلمين في القضية العظمى الطارئة، وهو في أول عهد بالخلافة . ولشدّة حصافته نادى جماعة المهاجرين والأنصار وهو جالس في ناحية المجلس: وقال: أشيروا عليّ في الحكم على عبيد الله بن عمر رضي الله عنه الذي فتق في الإسلام ما فتق . فقال علي رضي الله عنه وكان يحضر المجلس، إن القاتل يقتل . وقال بعض المهاجرين: لقد قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم، فماذا يقول الناس عنك يا أمير المؤمنين، وأنت في أول عهدك بالخلافة . وهل بمثل ذلك يتفاءلون بغدهم ويستبشرون . أما عمرو بن العاص، وكان يحضر المجلس أيضاً، فقد قال: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث قد كان، ولك على المسلمين سلطان . وإنما كان الحدث هذا ولا سلطان لك عليهم! وقد وافق هذا الكلام ما في نفس عثمان رضي الله عنه فقال: أنا وليهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي . وارتاح أهل المجلس لرأيه وانفضوا مسرورين .

رأي سياسي

ونحن نرى أنه من الوجهة الشرعية، يعتبر عبيد الله بن عمر قاتلاً عمداً . ولا يمكن أن يعتبر عمله هذا قصاصاً، لأنه قتل غير القاتل . إذ إن من فتك بهم لم يثبت عليهم الاشتراك في الجناية التي وقعت ثبوتاً شرعياً . ولذلك لا يكون القصاص إلاّ بعد الحكم وثبوت الأدلة واعتراف الجناة .

ولأن الشرع عادة لا يأخذ في الحدود والعقوبات بالقرائن التي من مثل هذا القبيل، فإن الحكم الشرعي في مثل حالة عبيد الله بن عمر، يوجب القصاص والحالة هذه . وما أشار به عمرو بن العاص، من أن ذلك الأمر حدث في غير سلطان عثمان، لا يمكن أن يكون كافياً لنجاته من العقوبة . ولو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حياً، وقد صنع ابنه ما قد صنع، لأمضى فيه حكم الله من دون تردد على ما نظنّ ونقدر في الخليفة الفاروق .

ونحن نعتقد كما اتصل لنا من سيرة ذي النورين رضي الله عنه وقيمه الدينية والأخلاقية والوجدانية، أنه كان عميق المعرفة بنفوس الناس، وهم لم يكونوا بعد قد غادرتهم الجاهلية تماماً . ومن حقه أن يهاب الأحكام التي لم تتمكن بعد من القلوب . ولهذا نراه يذهب إلى ما يراه الناس . فرأى ما رآه بعض المهاجرين من استفظاع قتل الولد الذي اشتعل غضباً لمصرع والده . كما نراه يأبى أن يدشن فجر خلافته بقتل ابن الخليفة الراحل، فالتمس لذلك مخرجاً، حين أخذ برأي عمرو بن العاص . وما من شك في أن رأي عمرو بن العاص، كان قد مثل رأياً سياسياً حكيماً في مثل ذلك الظرف القاهر الذي جعل الناس جميعاً في وجوم عظيم . ناهيك عما كان يحف بسيرة الهرمزان من الغدر المتكرر بالإسلام والمسلمين .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"