محمد بن الحنفية.. معتزل الفتن

علماء وأعلام
02:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد حماد

قصة ابن الحنفية تبدأ مع سؤال وجهه الإمام علي - كرم الله وجهه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له: «يا رسول الله، أرأيت إن ولد لي ولد من بعدك، أفأسميه باسمك، وأكنّيه بكنيتك؟» فقال: «نعم»، وبعد أن لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، ولحقته بعد أشهر قليلة ابنته فاطمة أم الحسن والحسين رضي الله عنهم، سافر علي إلى بني حنيفة، وتزوج خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية، فولدت له مولوداً سماه: محمداً، وكناه بأبي القاسم بإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا اسمه وكنيته، لكن الناس فيما بعد كنوه: محمد بن الحنفية، تفريقاً له عن أخويه الحسن والحسين ابني فاطمة الزهراء، ثم عرف في التاريخ فيما بعد بمحمد بن الحنفية.
ولد ابن الحنفية في أواخر خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ونشأ وتربى في كنف أبيه علي بن أبي طالب، وتخرج في مدرسته التربوية والتعليمية، وأخذ عنه عبادته وزهده، وورث منه قوته وشجاعته، وتلقى منه فصاحته وبلاغته.

لما اشتدت نيران الفتن بين المسلمين قال أبو القاسم: «عاهدت نفسي ألا يرفع لي سيف في وجه مسلم بعد اليوم»، ولما آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، بايعه محمد بن الحنفية على السمع والطاعة في المنشط والمكره، رغبةً في رأب الصدع، واستشعر معاوية صدق هذه البيعة، واطمأن إلى صاحبها.

قوة هائلة

حين وجه إليه ملك الروم رجلين من عجائب الرجال؛ أحدهما مفرط في الطول، جسيم موغل في الجسامة، حتى لكأنه دوحة باسقة في غابة، والثاني في غاية القوة، صلب متين، كأنه وحش مفترس، وبعث إليه معهما رسالة يقول فيها: أفي مملكتك من يساوي هذين الرجلين طولاً وقوةً؟ قال معاوية لعمرو بن العاص: أما الطويل فقد وجدت من يكافئه ويزيد عليه، وهو قيس بن سعد بن عبادة، وأما القوي فقد احتجت إلى رأيك فيه، فقال عمرو: هناك رجلان، غير أن كليهما عنك بعيد هما: محمد بن الحنفية، وعبد الله بن الزبير، فقال معاوية: إن محمداً بن الحنفية ليس عنا ببعيد، فقال عمرو: ولكن أتظن أنه يرضى على جلالة قدره، وسمو منزلته، أن يقاوي رجلاً من الروم على مرأى من الناس؟ فقال: إنه يفعل ذلك، وأكثر من ذلك، إذا وجد في ذلك عزاً للإسلام.

ودعا معاوية كلاً من قيس بن سعد، ومحمد بن الحنفية، فلما انعقد المجلس، قام قيس بن سعد، فنزع سراويله، ورمى بها إلى العلج الرومي، وأمره أن يلبسها، فلبسها، فغطت إلى ما فوق ثدييه، فضحك الناس منه، وأما محمد بن الحنفية فقال للترجمان: قل للرومي: إن شاء فليجلس، وأكون أنا قائماً، ثم يعطي يده، فإما أن أقيمه، وإما أن يقعدني، وإن شاء فليكن هو القائم وأنا القاعد، فاختار الرومي القعود، فأخذ محمد بن الحنفية بيده، وأقامه، وعجز الرومي عن إقعاده، فذبت الحمية في صدر الرومي، واختار أن يكون هو القائم، ومحمد هو القاعد، فأخذ محمد بيده، وجبذه جبذةً، كادت تفصل ساعده من كتفه، وأقعده في الأرض، فانصرف العلجان الروميان إلى ملكهما مغلوبين مخذولين.

بين خليفتين

حين لحق معاوية، وابنه يزيد، ومروان بن الحكم، إلى جوار ربهم، وآلت زعامة بني أمية إلى عبد الملك بن مروان، نادى بنفسه خليفة للمسلمين، فبايعه أهل الشام، وكان أهل الحجاز والعراق، قد بايعوا عبد الله بن الزبير، وراح كل منهما يدعو من لم يبايعه لبيعته، وامتنع ابن الحنفية عن مبايعة أي منهما، وانضم إليه رجال كثيرون رأوا رأيه، حتى بلغوا سبعة آلاف رجل ممن آثروا اعتزال الفتنة، وألح عليه ابن الزبير بطلب البيعة، فلما يئس من ذلك، أمره هو ومن معه من بني هاشم وغيرهم، أن يلزموا شعبهم بمكة، وجعل عليهم الرقباء، ولما بلغ عبد الملك بن مروان ما يعانيه محمد بن الحنفية أرسل إليه كتاباً يدعوه فيه للقدوم إلى الشام.
سار محمد بن الحنفية ومن معه ميممين وجوههم شطر بلاد الشام، فلما بلغوا أبلة استقروا فيها، وأبلة شمال بلاد العقبة، فأنزلهم أهلها أكرم منزل، وجاوروهم أحسن جوار، وأحبوا محمد بن الحنفية، وعظموه، فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان، شق عليه الأمر، واستشار خاصته، فقالوا: إما أن يبايع لك، وإما أن يرجع من حيث جاء، فكتب إليه عبد الملك يعرض عليه عرضاً مغرياً قال: «أنت رجل لك بين المسلمين ذكر ومكانة، وقد رأيت ألا تقيم في أرضي إلا إذا بايعتني، فإن بايعتني فلك مني مئة سفينة، قدمت علي أمس من القلزم، فخذها بما فيها، وبمن فيها، ولك معها ألف ألف درهم مع ما تفرضه من فريضة لنفسك، ولأولادك، ولذوي قرابتك، ومواليك، ومن معك، فإن لم تبايعني، فارجع من حيث أتيت، وإن أبيت، فتحول عني إلى مكان، لا سلطان لي عليه».

نهاية الحيرة

انصرف محمد بن الحنفية برجاله وأهله عن بلاد الشام، وطفق كلما نزل بمنزل يزعج عنه، ويدعى إلى الرحيل عنه.

لم تطل حيرة محمد بن الحنفية في المكان الذي يستقر فيه هو ومن معه، فقد شاء الله - عز وجل - أن يقضي الحجاج بن يوسف الثقفي على عبد الله بن الزبير، وأن يبايع الناس جميعاً لعبد الملك بن مروان، فما كان منه إلا أن كتب إلى الخليفة يقول: «إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من محمد بن علي، أما بعد: فإني لما رأيت هذا الأمر أفضى إليك، وبايعك الناس، كنت كرجل منهم، فبايعتك لواليك في الحجاز، وبعثت لك ببيعتي هذه مكتوبةً، والسلام عليكم»، فلما قرأ عبد الملك الكتاب على أصحابه، قال له أصحابه: والله لو أراد أن يشق عصا الطاعة، ويحدث في الأمر فتقاً، لقدر على ذلك، وهو في منأى عنك، فاكتب إليه بالعهد، والميثاق، والأمان، وذمة الله ورسوله؛ ألا يزعج، أو يهاج هو أو أحد من أصحابه، وكتب عبد الملك إلى الحجاج، يأمره بتعظيمه، ورعاية حرمته، حتى توفاه الله عن عمر ناهز خمسة وستين عاماً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"