عادي

مدينة الألفية الثالثة

04:17 صباحا
قراءة 4 دقائق

ينسب خبراء البيئة معظم مشكلات الألفية الماضية إلى المدن، بينما يرمز الحضريون الألفية الجديدة بألفية المدن . ومع أن المدن لا تمثل سوى 2% من سطح الأرض، فإن سكانها يمثلون نصف سكان العالم . وحسب التقديرات ستصل نسبتهم إلى 65% عام ،2040 الأمر الذي ينبئ بظهور بنايات ما فوق السحاب بطول 4 كيلو مترات في السماء ب 800 طابق كحلول جديدة للأزمة السكانية وقلة المساحات الخضراء (مثل مشروع مبنى X-SEED 4000, TOKYO) .

وللمدن وظائفها ومسمياتها العديدة فهناك المدن الإلكترونية والمدن المعرفية والرقمية أو الذكية، والمدينة المعلوماتية والسلكية والمدينة الخفية، والمدينة المتصلة، والمدن الافتراضية . جاءت فكرة المدن المستدامة كحل لإشكالية التوفيق بين متطلبات التنمية والمحافظة على البيئة لكون المدن تولد 80% من مجمل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون . ونتيجة لذلك انتشرت شعارات مثل: المدن الأكثر ملاءمة للعيش، المباني الخضراء، المدن الخضراء، النمو الذكي، استخدام المواد الصديقة للبيئة، تدوير السلع في المباني، العمران متعدد الاستخدام، النقل متعدد الوسائط، المدن الخالية من السيارات، الطرق السريعة للدراجات الهوائية، السيارات الكهربائية والهجينة . حتى بلغت هذه الافكار شهرة أكسبتها النجومية في عالم الاستدامة .

وعلى عكس المدن الصناعية التي انتعشت في الماضي ثم انقرضت بعد نهاية عصر البخار، تحاول المدن الحديثة تجسيد الإطار الفكري للاستدامة وباتت لديها فرص جيدة للنجاح في اختياراتها التنموية . فهي في سعي دائم لتوفير فرص اقتصادية مستمرة، تقصدها الشركات العالمحلية لأن ظروف الأعمال فيها ميسرة، وبيئتها نظيفة . سياساتها الاقتصادية تؤمن الرفاه الاجتماعي والاقتصادي لجميع أفرادها . قراراتها التنموية عادلة وتجلب معها التغيير المرغوب . طريقة تصميم أحيائها تؤثر في صحة السكان ومزاجهم النفسي لأنها متصلة بعناصر الطبيعة المتنوعة، أحياؤها آمنة ومريحة مع بيوت تراعي الخصائص الاجتماعية . هندستها المعمارية تقدم نوعاً من الثقافة الخضراء والخبرة البيئية الناضجة . تتعامل بشكل رائع مع المباني القديمة، ويمكن لزوارها التنزه في مساحات مفتوحة واسعة . لا ينتاب ساكنيها شعور بأنها مدينة مصممة لطبقة معينة من الناس بل هي مدينة الناس الصغار والكبار، الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء، المحليين والوافدين . ومن أجل هذا تقوم بتوفير جميع الخيارات لأولئك الذين لا يمكنهم استخدام السيارة كالأطفال، والمرضى، وكبار السن، لقضاء حاجاتهم في التسوق أو الذهاب إلى العيادة، ومراكز الخدمات . هذه المدن لديها أكثر من خيار في التنقل بحيث يمكن للشخص أن يذهب إلى العمل اليوم بالسيارة وغداً بالحافلة أو الترام، وبعدها بالدراجة الهوائية ما يعني أن جهة العمل تكون قريبة .

إذا تأملنا أفكار مدن الألفية الجديدة سنجد أنها مجرد أفكار قديمة مصحوبة بعلامة نفي، في الواقع هي بدائل معكوسة، فالمحلي يترافق مع العالمي، وتحاول استبدال التنافس السلبي بالتعاون التكاملي، وبدلاً من الفقر نجد الضمان الاجتماعي، وبدلاً من التحفظ في إعلان التفاصيل تزداد الشفافية، وبدلاً من العمالة التقليدية نشاهد استقطاب الكفاءات العالية، وبدلاً من الطبقية تظهر العدالة الاجتماعية، وبدلاً من التركيز على الجديد وحده يتم الاهتمام بتأهيل القديم، وبدلاً من الشوارع المعبدة نلاحظ وفرة ممرات المشاة والدراجات . ومع ذلك، تبقى نهاية المطاف حقيقة مهمة تزعج قادة الاستدامة وهي أن تطبيق هذه المبادئ لن يتم كلياً إلا في عدد محدود من المدن حول العالم، لاستحالة تحقيقها من جميع الوجوه وبفاعلية كافية . كما أن بعض هذه الأفكار غير قابل للتطبيق أحياناً، ولسيت بالضرورة الأكثر استجابة للنواحي الوظيفية لبعض المدن، وبالتأكيد ليست دائماً هي الأجمل . فضلاً عن أن كلمة استدامة نفسها كلمة غير واضحة تماماً وتحتمل التأويل بل يعتبرها الكثير من حماة البيئة فكرة متناقضة لأن تدهور البيئة عندهم مسلّمة ضرورية للتنمية . أما من منظور التنمية الحضرية فلم نجد إلى الآن مدينة حققت كل مبادئ المدن المستدامة رغم تكرار هذا اللفظ وبلا هوادة منذ ما يقارب الثلاثين عاماً . وهنا يظهر الاختلاف بين معرفة الاستدامة وممارسة الاستدامة، فرفع المدن شعارات الاستدامة نوع من المعرفة وتطبيقها للاستدامة نوع من الممارسة . ولكي تتطابق المعرفة مع الممارسة لابد أن تتقلص التحديات لمصلحة قوى الاستدامة في الصراع المستمر الدائر بين اهداف التنمية المستديمة ومصالح الدول والأنشطة البشرية .

وأياً كان الأمر، فقد حان الوقت لننتبه إلى قضايا الدمج والمشاركة الشعبية للسكان، والشفافية في عمليات صنع القرار لأنها تشكل الأسس الأولى في صياغة المدن المستدامة . وبالتالي فإن زعماء المدينة ومديري الدوائر بحاجة إلى وضع مناهج أكثر تطوراً لإشراك الجمهور في حالة إصدارهم قرارات ذات طبيعة متعلقة بحياة الناس . والعنصر الأساسي في التحفيز على المشاركة هو أن يعطوا الضمان القانوني في الكلام والاستماع إليهم، وإشعارهم بالتملك لجميع مكونات مدينتهم .

على القادة الحضريين والمخططين والاقتصاديين وغيرهم من ذوي الشأن الجلوس سوياً لتحديد موضوعات أخرى للنقاش تشمل التغيرات في الإدارة الحضرية بالتركيز على إعادة تنظيم دور البلديات ومجالس التخطيط والدوائر الاقتصادية من التحكم في عملية التنمية الحضرية إلى التنظيم والمشاركة وذلك بتقنين أنظمة صديقة للسكان، وترك المجال مفتوحاً للأفكار الجديدة والتوجهات المرنة لاستيعاب المستجدات الحديثة وإشراك القطاعات غير الحكومية والأهلية كمستثمرين وصنّاع للقرار مع الجهات الحكومية .

/ خبير في شؤون العولمة والتنمية الحضرية [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"