عادي

النرويج روح الدائرة القطبية وسحر الشفق

02:11 صباحا
قراءة 6 دقائق

السفر إلى النرويج، والتعرف عن كثب إلى طبيعتها البحرية والجبلية ونشاطها السكاني، من أكثر التجارب التي يمكن أن يمر بها الإنسان امتاعاً . فهي بكل المقاييس تجربة جديدة حول شعب اشتهر بأنه يحب السفر والترحال عبر البحار، ولا ننسى سمك السلمون والإمكانات النفطية الغنية للبلاد، فضلاً عن كرم أهله وشغفهم بالعلم والثقافة، وهو ما تعكسه جامعاتهم التي تضم آلاف الطلبة من أبناء البلاد والأجانب، وتشتهر بالجدية والعناية بالبحث العلمي .
باتت النرويج بلد الصناعات الثقيلة والتقنيات المتنوعة، ولم تعد بلد الصيادين أو المغامرين الفايكنغ فحسب . بينما بدأت الرحلات البحرية السياحية فيها قبل مئة عام بنشاط متواضع، تطور ليصبح الآن واحداً من أهم الأنشطة السياحية البحرية في العالم .
ولتعزيز روح المغامرة وتوفير السفر المريح، تعمل شركة هورتغروتن البحرية النرويجية السياحية، على توفير سفن عملاقة تتوفر فيها كل وسائل الراحة . ويستطيع الزائر أن يتوقف في معظم المدن المنتشرة على الساحل، للتعرف إلى ملامحها الثقافية ونشاطها الاقتصادي .
منذ البداية، وبعد هبوط الطائرة في مطار مدينة بيرغن النرويجية الجنوبية قادمين من العاصمة أوسلو، تبدأ الرحلة البحرية على متن واحدة من السفن ال 12 الفاخرة التي تمتلكها شركة هورتيغروتن النرويجية السياحية البحرية، التي تخصص برامج دقيقة إلى الدائرة القطبية والمدن المختلفة على الساحل .
وتسعى الشركة، التي أنشئت قبل 100 عام، من خلال رحلاتها إلى توفير كل أسباب الراحة والأمان للزوار، وتمكينهم من التعرف إلى بلاد النرويج عن كثب . وشدة البرودة لا تعيق ألوف السياح من زيارة المناطق القطبية، لأنها تجربة فريدة جدا على الصعيدين الشخصي أو الجماعي .
بلد الدائرة القطبية
في منتصف الطريق البحري المتاخم للساحل الغربي للنرويج، المطل على المحيط الأطلسي، يقع خط الدائرة القطبية ما بين نقطة بداية الإبحار في مدينة بيرجن في الجنوب ومدينة ترومسو في الشمال . وفي المناطق الجنوبية لا ترى الكثير من الثلوج أو تشعر بالطقس البارد بسبب التيارات البحرية الدافئة القادمة من الجنوب عبر الأطلسي .
إلا أن الغطاء الأبيض يبدأ بالظهور بكثافة بعد عبور الدائرة القطبية فتغطي الثلوج المروج والجبال والجزر الكثيرة التي تعد بالمئات على الساحل النرويجي . قد يعتقد البعض أن المناطق التي تقع إلى الشمال من الدائرة القطبية، هي بلاد قفر خالية من البشر والحيوان، ولكن ما أن يصل الزائر إلى هناك حتى يختلف الأمر تماماً .
وسيفاجأ بأنها مناطق مسكونة بمجمعات سكانية كبيرة متناثرة على الساحل هنا وهناك، وتحصل على مؤنها وبضائعها من خلال السفن الكثيرة المبحرة على طول الساحل . كما أن تلك المناطق ليست خاملة، بل هي مملوءة بالمصانع والمشاريع الإنتاجية المهمة التي تجعل من النرويج بلداً صناعياً من الطراز الأول .
والواقع فإن الوصول إلى الساحل الغربي للنرويج على متن سفينة سياحية فاخرة، هي في حد ذاتها تجربة رائعة، ويكفي أن يشعر المرء طوال الرحلة بالراحة والدفء والأمان، بينما خارج السفينة يلف الجو برد قارس، وتظهر جبال مغطاة بالثلوج ومحيط ترتفع فيه الأمواج، عندما لا تكون السفينة في الممرات البحرية . تلك الحالة تغذي لديك روح المغامرة، وتشعر بأن رحلتك إلى الدائرة القطبية الشمالية حالة استثنائية وتحقيق حلم وصقل لمعرفة .
شعب الفايكننغز
ولعل أكثر ما يثير الفضول خلال السفر هو معرفة التراث الثقافي لهذه الأمة الفريدة التي عرفناها عبر كتب التاريخ، أنها شعب الفايكنغ القوي لذي استطاع الوصول إلى أكبر الجزر في العالم الواقعة قرب القطب الشمالي، وهي جزيرة غرينلاند المحاذية لكندا وأمريكا الشمالية، وتحقق ذلك الاكتشاف قبل أن يقول الأوروبيون الآخرون إنهم اكتشفوا الأمريكتين .
ولعل اجتياز الدائرة القطبية هو في حد ذاته مغامرة كبرى على الصعيد الشخصي، وحكاية يمكن روايتها للأهل والأصدقاء . ويمنحك قبطان السفينة عند اجتياز الدائرة القطبية شهادة تعد وثيقة رسمية من النرويج، أنك عبرت الدائرة القطبية . وستشعر عند ذلك بقيمة المغامرة التي حققتها وأصبحت واحداً ممن يكتشفون الدائرة القطبية، وقد تكون من الأوائل في بلدك الذي حقق هذه الزيارة المغامرة .
ومن دون شك، فإن المسافر الذي يزور تلك الأصقاع للمرة الأولى، سيشعر بأنه أنجز طموحاً لا يقدر الكثيرون على فعله، وستظل قصص الرحلة عالقة في ذهنك ترويها للأقارب والأصدقاء، وربما للأحفاد إذا ما كبرت .
مغامرة فريدة رغم قساوة البرد
وفي كل الأحوال، فإن الرحلة تستحق المغامرة والجهد، لأن الزائر سيتعرف إلى عالم جديد . فعلى الرغم من قسوة الأجواء إلا أن السكان القاطنين على طول الساحل الغربي النرويجي، وخاصة بعد عبور الدائرة القطبية، يتميز بالكياسة واللطف الكبير .
ولن يشعرك بالضجر أو بعدم الاكتراث، بل سيوليك أهمية وستعامل معاملة الملوك، وستخرج بانطباع عن البيئة والناس بصورة تجعل التجربة محفورة في الذاكرة، وإن أمكن ستعيدها في الربيع لترى الفرق . في تلك الأنحاء البعيدة، يمكن أن ترى الشمس في عز الليل أو تعيش تجربة الظلام الدامس في الشتاء، وقد تشهد التكوينات البديعة والغامضة للشفق القطبي الذي يشحن النفس بالرهبة، والاطلاع عن كثب على عظمة الخالق .
لقد باتت الرحلات إلى القطب الشمالي، أو أبعد نقطة من الساحل الغربي النرويجي، مغامرة آمنة مشفوعة بالخصال الكريمة والطيبة للشعب النرويجي، فضلاً عن متعة الإبحار على متن سفن عملاقة وآمنة ومزودة بكل وسائل الراحة . وبالطبع لن تكون وحيداً أو معزولاً على متن السفينة، بل إن الرحلة برمتها وسيلة مثالية للتعرف إلى أناس، جاؤوا من كل أصقاع الأرض لخوض هذه المغامرة .
ولعل عبور القنوات المائية الطبيعية من أهم معالم الرحلة، حيث تطل الجبال الشاهقة على السفينة من كل مكان . ولك أن تتخيل اللحظات المهيبة، عندما تعبر السفينة تلك القنوات ومن تحت الجسور، وعندما يتخلل ذلك عبور حيز ضيق للغاية، ولك أن تتخيل أيضاً تلك الجبال والجزر والمدن المكسوة بالثلوج الآن، كيف ستصبح في الصيف والربيع حيث تتحول بطبيعة الحال إلى مساحات من الألوان الطبيعية البديعة المملوءة بالورود والأنواع المختلفة من الخضرة .
ترومسو ومغامرة التزلج
لعل أهم تجربة يمكن أن يحلم بها الإنسان الذي يحل ضيفاً على تلك المناطق، هي رحلات التزلج التي تقودها فتيات قويات البنية ومدربات، إذ تمضي بك العربة التي يجرها نحو عشرين كلباً مدرباً شديدة الألفة والود، لتعبر الهضاب والممرات الجبلية ذات الكثافة الثلجية العالية .
وتنطلق الزلاجات التي تجرها كلاب تطيع بدقة التعليمات التي توجهها إليها قائدة العربة، لتطوي الهضاب الثلجية وسط ظلام دامس لا يضيئه سوى المصباح المثبت على خوذة قائدة العربة، بينما لا تكف الكلاب عن الجري .
عند الوصول إلى بلدة ترومسو بعد رحلة بحرية طويلة، تنقلك حافلة مع الزائرين إلى منطقة جبلية مغطاة تماماً بالثلوج وبالظلام أيضاً سوى الإنارة القوية المنبعثة من معسكر الرحلات بالزلاجات، وما أن يصل الزوار إلى المعسكر حتى يبدأ أكثر من 400 كلب بالنباح ترحيباً وليس غضباً أو قلقاً من مجيء الناس .
كرم حاتمي نرويجي
هناك المتاحف مفتوحة وكذلك المسارح وصالات الأفراح . وعند رسو السفينة في ميناء أية مدينة، تنتظرك حافلة لتطوف بك في المواقع السياحية والتراثية . حيث يعشق الناس هنا الحديث عن تراثهم وثقافتهم، وتبقى ابتسامة عريضة مرسومة على وجوههم، وقد تدعى لوجبة شهية وهي الدليل على تقاليد الكرم وحسن الضيافة . ويتحلى النرويجيون بالكثير من الود ويعتريهم الفضول الشديد، وهم يحاولون التعرف إليك من أين أتيت، وما هي بلادك وثقافتك . وكل ذلك يتم من خلال سلوك رفيع وتهذيب عال .
فضولهم التعرف إلى ثقافتك
في كل الأحوال، فإن الحياة تسير هنا بشكل طبيعي، وهي إلى ذلك تجربة غير مسبوقة للقادمين من دول الخليج العربية . فالمنازل والطرقات والشجر والزرع كلها مكسوة بالثلوج . وتوفر لك معظم تلك القرى والمدن منازل سياحية يمكن أن تقطنها أنت وعائلتك، ويمكن شراؤها أيضاً بغرض استثمارها أو تخصيصها للزيارات، بدلاً من الاستئجار أو الإقامة في الفنادق .
ويتقن النرويجيون على الأغلب اللغة الإنجليزية، إذ يمكن التفاهم معهم بكل سهولة، كما أن السكان المحليين يتمتعون بلطف غير عادي، والأمر ينسحب على النساء والرجال والأطفال على حد سواء .
متعة الظلام
ستدهش عند الوصول إلى رأس الساحل النرويجي باختفاء الضوء تماماً، وحلول الظلام الدامس وقت الظهيرة . ولا يشعر السكان هنا بأي ضيق أو اضطراب بسبب اختفاء الشمس طوال فترة الشتاء، بل هم ألفوا هذه البيئة والأجواء، وأصبحت جانباً جوهرياً من حياتهم اليومية .
ويحدثك الناس هنا عن أن الحياة لا تكف عن العطاء، فهم نشطون سواء لم تشرق الشمس في الشتاء، أو لازمتهم طوال الربيع والصيف من دون انقطاع معلقة في السماء لا تغيب أبدا خلافاً للشتاء . وعندما تتحدث إلى بعض النرويجيين في تلك المناطق عن احتمال أن يؤدي الظلام الدائم خلال الشتاء إلى إصابتهم بنوع من الاكتئاب، يردون عليك بالقول: "ولدنا هنا وترعرعنا وألفنا غياب الشمس في الشتاء وظهورها الدائم في الصيف" .
وعند اجتياز الدائرة القطبية والوصول إلى المناطق الأشد برودة وثلجاً، فإن ذلك لا يعني أن تلك الأصقاع مقفرة أو خالية من البشر، بل على العكس فهي مناطق مأهولة بالناس الذين يستقبلون الزائرين بابتسامة عريضة ملؤها الفرح والاستعداد لتوفير كل سبل الراحة للزائرين .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"