عادي

"أسرار الازدهار والفشل الآسيوي" بين أسطورة النمور والمعجزة الاقتصادية

04:57 صباحا
قراءة 9 دقائق

ترجمة: وائل بدر الدين
"النجاح والفشل في أعرق تجربة اقتصادية وأكثرها ديناميكية في العالم" عبارة لخصت مضمون كتاب "جو ستادويل" بعنوان "أسرار الازدهار والفشل الآسيوي" الصادر عن دار "غروف" والحائز على جائزة أفضل كتاب اقتصادي لعام 2014 التي تمنحها شركة "غولدمان ساكس" بالتعاون مع "فاينانشل تايمز" .
ولا شك أن سر نجاح النمور الآسيوية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي دفعت الكثيرين في الغرب الصناعي للاعتقاد بأسطورة المعجزة الاقتصادية لدول المنطقة التي بدت كتلة متجانسة ثقافياً واقتصادياً فضلاً عن كونها عملاق تنمية .
في كتابه "أسرار الازدهار والفشل الآسيوي" يفند "ستادويل" أداء اقتصادات تسع دول آسيوية هي اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وإندونيسيا، وماليزيا، وتايلاند، والفلبين، وفيتنام، والصين، بالتحليل المكثف ويعرضها في مسرودة مقروءة تفضح زيف التضليل الغربي وتوضح حقائق ما جرى ويجري في آسيا، وسر ذلك النجاح الذي أحرزته بعض دول القارة والفشل الذي منيت به دول أخرى .
ويعرض الكتاب بالتفصيل والمقارنة لعدد من أهم العوامل المؤثرة في النجاح الذي أحرزته تلك المجموعة من الدول وهي غالبا في الجنوب الشرقي الآسيوي مقابل معوقات نمو المجموعة الأخرى الواقعة شمال غرب القارة . وركز الباحث على التعليم وأنماطه والملكيات الزراعية وطرق تفعيل أسالب الإنتاج الزراعي لتصب في صالح دعم النمو الصناعي، ودور النظم السياسية بغض النظر عن كونها تصنف ضمن الديمقراطيات أو النظم الاستبدادية الشمولية، مبيناً أن الازدهار لم يقتصر على واحدة من الفئتين .

جودة التعليم ضمانة حقيقية لنجاح الدول اقتصادياً
لا يمكن أن يكون العجز في التدريب المهني والمهندسين إلا جزءاً بسيطاً من توضيح البطء الذي لازم أداء دول جنوب شرق آسيا في القطاع التعليمي . وبداية فإنه قد تم تدريب معظم المهندسين في شمال شرق آسيا بعد بداية النمو الاقتصادي . وحققت اليابان طفرتها الصناعية بواسطة عدد قليل من مهندسيها، حيث بدأت الدولة في العام 1930 في التركيز أكثر على التعليم الخاص بالتدريب المهني والفني . وخلافاً لذلك وفي دول مثل كوبا وروسيا فلم تتم الاستعانة بالمهندسين فيها على نحو كبير ما أدى إلى انخفاض النتائج المرجوة منهم . ويتمثل الجانب الثاني الأكثر أهمية في أن البيانات الخاصة بالتعليم النظامي والتنمية ليستا متسقتين تماماً . حيث إن التعليم الحقيقي في أنجح الدول النامية لا يكون ضمن النظام التعليمي الحكومي، بل يكون في مؤسسات أخرى خاصة .
وساعد التعليم الداخلي في المؤسسات في توضيح الإخفاق الذي ارتبط بالاتحاد السوفييتي سابقاً، وهي الفترة التي كان فيها التركيز على الاستثمار في التعليم والبحوث منصباً على الجامعات المتميزة ومعاهد الأبحاث التابعة للدولة بدلاً من أن يكون ذلك داخل المؤسسات نفسها . ولم يكن ذلك الوضع مختلفاً عما هو عليه في منطقة جنوب شرق آسيا التي تبنت نهجا يمزج بين كل من التقاليد الأنجلو ساكسونية في التعليم النخبوي العالي مع التوسع الكبير في مؤسسات البحث العامة في مرحلة ما بعد الاستقلال . وخلافاً لذلك ففي الصين بعد العام 1978 وكوريا فلم تركز الاستثمارات التعليمية والبحثية الفعالة على التعليم النظامي الحكومي بل إنها كانت في الشركات والمؤسسات، وخصوصا التي كانت تمتلك معايير المنافسة أو التي كانت في وضع تنافسي قوي عالميا . ويمكن أن يكون ذلك حاسما في الاكتساب المتصاعد للقدرات التكنولوجية، وهو ما تحدث عنه العالم الياباني "ماسايوكي كوندو" عند وصفه لإخفاق ماليزيا في تطوير طاقات تكنولوجية على الرغم من الاستثمارات الكبيرة في التعليم العالي والأبحاث، وجاء في وصف العالم الياباني أن الشركات هي العامل الرئيسي في التطور التكنولوجي وليست المؤسسات الحكومية . ومن المؤكد أن سياسة التكنولوجيا هي مفتاح المراحل الأولى من التقدم الصناعي، وعليه فإن الاستراتيجية الصناعية التي تتبناها الحكومة هي العامل الأكثر أهمية في النجاح . فإذا لم تقم الحكومات بإنشاء كيانات تُعنى بمحركات التعليم الصناعي فإن كافة الجهود المبذولة في التعليم الحكومي ستكون مجرد مضيعة للوقت . ويبقى التنبيه الوحيد في أنه إذا ما وصلت الدولة إلى مستويات معينة من التطور الصناعي فإن الخليط التعليمي الأمثل والعلاقة بين كل من المؤسسات التعليمية الحكومية ونظيراتها في الشركات تتغير باستمرار . إلا أن هذه النقطة ليست ما يركز عليها الكتاب، بل إن التركيز منصب نحو السبل التي تجعلك في مصاف الدول المتقدمة من الناحية الاقتصادية .

التعددية السياسية ليست شرطاً للتنمية
من الجوانب الأساسية التي يركز عليها الكتاب والتي تعتبر نسيجه الأصلي الديموغرافية والتعليم . ولم يتم التطرق لبعض النقاط الأخرى التي تعتبر في بعض الأحيان من العوامل التي تؤثر في التطور الاقتصادي .
تأتي التعددية السياسية والديمقراطية على رأس الموضوعات التي يتناولها الكتاب، حيث إن هنالك من يحاولون إيجاد حجة مقنعة بأن الديمقراطية إما أنها تحد من التنمية الاقتصادية أو أنها تجعل من الممكن تحقيقها . ومنذ القرن التاسع عشر بدأت اليابان في التوجه ببطء نحو هيكلة بيئة سياسية مستقرة، وهي كانت الدولة الأولى في إصدار برنامج سياسي تحديثي ناجح حتى قيام الحرب العالمية الثانية . وضرب النظام السياسي القاع خلال فترة الكساد العظيم في العشرينات وتحت ضغوط عنصرية من البيض، ومن ثم الديكتاتوريات العسكرية . وعلى النقيض من ذلك ففي كوريا الجنوبية وتايوان فقد أشار العديد من الناس إلى نجاح الحكم الاستبدادي للجنرال "بارك شونغ هي" و"شيانغ كاي شيك"، إلا أنهم نسوا الأزمة الاستبدادية ل"شيانغ كاي شيك" في البر الرئيسي بالصين قبل العام 1949 تحت العديد من السياسات الاقتصادية المختلفة . وفي جنوب شرق القارة وفي إندونيسيا على وجه الخصوص، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، قام "سوكارنو" بإدارة البلاد بنظام إداري يتسم بالفوضوية قبل أن يتحول إلى نظام استبدادي مع المزيد من الفوضى العارمة . وبعدها استولى "سوهارتو" على البلاد بانقلاب عسكري ما أدى إلى أن تشهد البلاد استقراراً وتنمية كبيرين في ظل النظام الذي لا يختلف عن سابقه في التسلط، بيد أن عائلته انتهى بها الحال إلى سلب موارد البلاد وخيراتها . وفي الفلبين أعلن الرئيس المنتخب ديمقراطياً "فيرديناند ماركوس" في العام 1972 بأنه في حاجة لاستخدام القانون العسكري لغرض إجراء إصلاحات جوهرية تسرع من وتيرة التنمية ومن ثم قام بنهب البلاد بطريقة غير مشهودة سابقاً .

تأميم الأنظمة المصرفية
وعلى الصعيد دون الوطني، فإنه من الصعب جداً إيجاد علاقة متناسقة بين كل من النظم الاستبدادية أو الديمقراطية من جانب، وبين السياسات المطلوبة للوصول لمستويات كبيرة من التنمية الاقتصادية . هنالك بعض الأحداث التي ظهرت مثل قيام الجنرال "بارك شونغ هي" بسجن قادة الشركات والأعمال مؤقتا ومن ثم إعادة تأميم النظام المصرفي الكوري في العام ،1961 وهي الفترة التي شهدت أشد مظاهر الاستبداد . إلا أنه كانت هنالك أيضا بعض السياسات التي حتمت التوجه نحو تبني الديمقراطية . وفي المناطق التي كانت تحت سيطرة الشيوعيين في الصين بأواسط ونهايات فترة الأربعينات فقد تحقق نجاح عملية الإصلاح بواسطة لجان القرى المنتخبة التي كان دورها يتمثل في المعارضة الصريحة والعلنية للنظام الاستبدادي المرتبط مع الصين حتى الآن . وبطريقة مماثلة أيضاً فإن ممثلية لجان الإصلاح الزراعي التي عملت في كل من اليابان وتايوان حققت نجاحاً على نحو لم يسبق له مثيل .

الديمقراطية والتنمية المؤسسية
ربما يكون الجانب الأكثر أهمية هو صعوبة تجاهل الاستدلالات المرتبطة بفوز الخبير الاقتصادي الهندي "أمارتيا سين" بجائزة نوبل، وهو السؤال المتعلق بما إذا كانت الديمقراطية فعلا تشجع أو تؤخر عملية التنمية مبني على تمييز زائف . إن الديمقراطية والتنمية المؤسسية هما جزء من التنمية ولا يجب النظر إليهما على أنهما من العوامل المحركة للتنمية .
وبعد أن عاش الكاتب في كل من إيطاليا والصين اللتين كان للتطوير المؤسسي فيهما دور كبير في التنمية الاقتصادية، فيعتقد أن ذلك ليس فكرياً فحسب، بل إنها تجربة شخصية امتدت لعشرين عاما . ويتمثل الفلك الذي يدور حوله هذا الكتاب في التنمية الاقتصادية التي لا يمكن أن تجلب للناس وحدها الرفاء والسعادة .

التقدم الاقتصادي
وتعتبر الديمقراطية جزءاً من التنمية أكثر منها شرطاً أساسياً للتقدم الاقتصادي . وفي السنوات الأخيرة حاولت الحكومات الغربية وأكاديميون من بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص إقناع الحزب الشيوعي الصيني أن سيادة القانون من المتطلبات الأساسية للتنمية الاقتصادية . وبعد نمو الاقتصاد الصيني بداية من العام لم تضف الحكومة أي نوع من الشفافية فيما يتعلق بحقوق الملكية، وقامت بفرض عقوبات قانونية على العديد من الأنشطة بعد بدايتها . وواصلت لجان الشؤون القانونية والسياسة بالحزب الشيوعي الصيني البت مسبقاً في القضايا القانونية المهمة، وعلى الرغم من كل ذلك ازدهرت الصين . وفي كوريا الجنوبية كانت المحاكم والشرطة والمباحث السرية تتولى القضايا التجارية وتتعامل معها بتهديد واعتقال وسجن قادة الاتحادات المهنية وتقويض الأنشطة العمالية، واستمر الحال على ذلك المنوال حتى بدايات العام ،1990 وهو ما لا يختلف كلياً عما كان يحدث في الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر أو قبل ذلك بقليل في بريطانيا . وعلى الجانب الآخر فقد كان هنالك بعض من الحماية القانونية وسيادة القانون في اليابان التي تعتبر النموذج الأبرز في الازدهار الاقتصادي الذي تحقق بالمنطقة . وفي الفلبين وإندونيسيا ارتبطت حالة انعدام سيادة القانون بضعف الأداء الاقتصادي . وفيما يتعلق بالديمقراطية فمن الأفضل حتما الاعتراف بأن سيادة القانون ليست من المحركات الأساسية لدفع عجلة التنمية الاقتصادية بل إنها جزء لا يتجزأ من التنمية ككل . ويتوجب على الدول النامية الآن السعي وراء تحقيق كلا الجانبين .

تأثير العوامل الجغرافية في الاقتصاد
وأخيراً فإن هنالك فكرة سائدة بأن العوامل الجغرافية والمناخية لها تأثير كبير في التنمية الاقتصادية، حيث إن هنالك الكثير ممن يعتقدون أن الوضع الاقتصادي في جنوب شرق آسيا أقل من شماله ببساطة لأن المناخ فيها ساخن خلافا لدول شمال شرق آسيا التي يتشابه مناخها مع القارة الأوروبية . وكان هنالك الكثير من الجدل والنقاشات التي تدور حول أن للمناخ أثراً كبيراً في النمو الاقتصادي . وبغض النظر عن توجه بعض الدول نسخ تجربة جيرانها من الدول الأخرى فقد أثبتت العوامل الجغرافية ضعف العلاقة بينها وبين النجاح أو الإخفاق الاقتصادي بمنطقة الشرق الآسيوي، وهو ما تم تناوله بالتفصيل في هذا الكتاب مع ذكر العديد من الأمثلة . وكمثال على ذلك فإن تايوان التي لا تبعد سوى بضع ساعات بالطائرة جنوب طوكيو تتميز بمناخ شبه استوائي، وهي الدولة التي صنفت في هذا الكتاب على أنها من مجموعة دول شمال شرق آسيا . وعلى حد سواء هنالك فإن الطبيعة الجغرافية لفيتنام أقرب إلى تايلند وماليزيا، إلا أن الكتاب وضعها في التصنيف بجانب الصين . إن الرابط الضعيف بين الاقتصاد الجغرافي لكل من شمال وجنوب شرق القارة الآسيوية هو ما أدى بمؤيدي هذا التوجه إلى الجدل حول أنه "لا يوجد شيء يتوجب القيام به" .

عوامل التنمية
تشير المراجعة التاريخية للتطور الاقتصادي بمنطقة شرق آسيا إلى أن وصفة النجاح تتلخص في ثلاثة عوامل هي، المزارع الأسرية والصناعة المعدة للتصدير والسيطرة على القطاع المالي الذي يدعم القطاعين السابقين .
ويعزى السبب في نجاح الوصفة إلى أن تمكن الدول الفقيرة من الاستفادة من اقتصاداتها أكثر من المهارات ذات الإنتاجية المنخفضة التي يتميز بها سكانها، أدى بها إلى المرحلة الأولى من التنمية . وقامت الحكومات بالتلاعب بالاقتصادات ما أدى إلى تكوينها لثروات كبيرة مكنتها من توفير الأموال والرفاء لمواطنيها الذين لم يكن بمقدورهم التغير عبر السياسات التي تتبعها الحكومة .
لا يحبذ الخبراء الاقتصاديون الجدد التدخلات السياسية في الأسواق، ويستندون في رأيهم إلى أن الأسواق متلازمة مع الكفاءة من دون تلك التدخلات، بيد أن التاريخ يظهر أنها جاءت بفعل فاعل . ويمكننا القول إن أسواق المجتمعات المنتجة مصممة عبر القوة السياسية . ولم يكن الفائض الزراعي والطفرة الزراعية المتنامية لتتحقق لولا نزع الأراضي من ملاكها في كل من اليابان وكوريا وتايوان والصين . ولولا التركيز أيضاً على الصناعة المعدة للتصدير، فكان من المستحيل أيضاً الحصول على ملايين من المزارعين الذين أسهموا في تلك الاقتصادات . ولولا القمع المالي لكان من الصعب أيضا الصعود بالاقتصاد إلى مستويات كبيرة . وفي كل ما ذكر أعلاه، فإن الأسواق والمنافسة وُجدت في الأساس لخدمة الاقتصاد .
تتمثل الرسالة التي أوصلتها منطقة شرق آسيا للخبراء الاقتصاديين حول العالم أن هنالك عدة أنواع من الاقتصادات، أقلها اثنان . يتمثل أحدهما في الاقتصاد المبني على التنمية التي تكون أشبه بعملية تعليمية . أما النوع الآخر فهو الاقتصاد المبني على الكفاءة والذي يمكن تطبيقه على المراحل المتأخرة من التنمية . ويتطلب ذلك تدخلاً حكومياً أقل وأحكاماً تنظيمية أكثر وأسواقاً حرة وتركيزاً كبيراً على الأرباح قصيرة المدى . ويبقى السؤال الماثل في الكيفية والظروف التي يتم فيها تطبيق أي من النوعين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"